الفصل الثاني

الرقص على الحريق

الطفلة رهام تحفظ مادة التاريخ وتستظهر على والدتها التي كانت غارقة في هلوستها المعتادة. تتذكر و تحلل الماء. الماء أصبح مشكلة في البصرة. يشرب السكان ماء ملوحته عفنة لأن الماء المستجلب من الفرات ودجلة ملوث بسبب النفايات. رغم أن المدينة تتوفر على معامل لتطهير المياه فإن اللجنة الأممية لتطبيق العقوبات تمنع العراق من استيراد مادة الكلور الضرورية لمعالجته. من قبل كان الماء مطهرا ومتوفرا في كل مساكن البصرة, بينما الآن هو غير موزع في العديد من أحيائها. في المدة الأخيرة بدأ السكان يشترونه من الباعة في الأحياء وقد بلغ ثمنه ضعف ثمن الوقود. هذا ما أزم الوضع وجعل العراقيين ينتظرون بشغف نهاية المفاوضات, أي مفاوضات ؟ هم لا يعرفون إلا أن البترول اكتشف حديثا. هذه أوهام, فآبار القار في إقليم الكوفة وفي شمال العراق كانت معروفة, يحكي عنها ابن بطوطة كما يحكي عنها آخرون من قبله. ينتشلها صاحبها من هلوستها يقول لها :

– فكي أزرار قميصي .

تقول له :

ما أجمل أن أمزق قميص صاحبي من دبر وأن يكون القميص قميص ملك آشور, الذي يقيم منفيا بين باريس وبرلين وبقع أخرى من هذا العالم .

يجيبها مازحا:

أنا سركون , عمري تسعة عشرة سنة. فتحت بابل فاخضرت السنابل وأورقت الأشجار وزغردت النساء وهدأ روع الرجال. أنا الآن عمري خمسون سنة, دخلت بغداد, رفعت الحصار وقطع أيديهن دهشة كل نساء العالم .

تقد قميصه شغفا وحبا. يقرأ لها قصيدة عنوانها * ليس هذا من كيد النساء*. كتبها ما بين بيروت, أثينا, واشنطن, الرباط, الرستاق و مونتريال. يقرأ القصيدة بصوت عال متوجع و محموم :

لا قفل, لا باب, لا بيت

زر تاريخنا المهدم

الخاتم الذي تريده, هناك

الشعب يطلب خبزا

ماء ماء ماء ماء

منى تحكي لصاحبها عن أنخدوانا, تقول:

أنخدوانا هي ابنة الملك سركون الأكدي. ولدت عام ‌2316 قبل الميلاد و نصبها أبوها لتعمل في معبد أور. أعطاها سركون سلطات دينية. تعتبر أول امرأة شغلت منصب مركز الكاهنة العليا. هي شاعرة متميزة ومن أروع قصائدها قصيدة “سيدة جميع النواميس الإلهية” التي نظمتها في مدح الآلهة أنآنا عشتار . يتجلى في هذه القصيدة تناص الحب والسياسة من خلال المديح.

يرتفع صوت حكيها, تقول:

لا نريد رؤساء, الانتخابات مزورة. نحب الملوك. سركون عاد عمره خمسون سنة, فك الحصار و دخل بغداد.

يقول لها :

احكي لي عن بعض الرؤساء العرب.

تحكي بصوت منخفض و متناغم:

كان رجلا عظيما, أحببناه يوما ما, مثل الرئيس الذي سبقه, ذلك الذي قرر استقالته يوم 8 يونيو ‍1967. قال قررت أن أقدم استقالتي, وأن أتنحى نهائيا عن منصبي الإداري, و أعود إلى صفوف الجماهير. ورئيس آخر طرد الدكتاتورية ثم استقال من الرئاسة وصار يحضر في الدروس الرمضانية.

أولاد منى التفوا حول التلفزة حبا في الرئيس الذي لا يرغب في تقديم استقالته. يهللون بصوت مرتفع انتصارا:

ماما, الصواريخ تضرب تل أبيب.

منى غارقة في هلوستها. ضاع كل الحب, الحريق , الماء لم يعد متوفرا في بلده وهو لم يعلن عن استقالته. بدأت المظاهرات تعم كل المدن في انتظار الإعلان عن الوصول إلى اتفاق. لكن القرار 986 يضع البلاد تحت الوصاية , فكل الأموال التي ستجنى من عملية بيع النفط ستوضع في حساب بنيويورك تحت وصاية الأمم المتحدة. الماء الماء

ترعبها كلمة وصاية. تذكر توا أن الحريق شب في العطارين وفي دكان سيد العباس. الوصاية على شعب له جذور حضارية متأصلة, احتقار للعالم وللبشرية. الماء و حريق العطارين . منى تكتب. يجب احترام الحدود القطرية إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا في خصوص الوحدة العربية. رهام تحفظ بصوت عال و تزاحم حروف تكتبها أمها, تعمل على تشتيت أفكارها.

ماما .. . أريد أن أستظهر عليك دروس التاريخ.

لا تسمعها, تكتب

ماما

تجرها من يدها يسقط القلم أرضا. ترغب أن يقع القلم في جوف النهر و تغرق من أجله و تنتحر , كما انتحرت فيرجينيا وولف غرقًا في نهر أووز. منى تتساءل في صمت هل كانت فيرجينيا مثلها ترغب أن يسقط القلم في جوف النهر؟

تنزعها رهام من هلوستها , تقول لها:

ماما .

تومئ بسبابتها إلى الخبر المكتوب على الصحيفة قائلة :

ماما اقرئي : ” دلائل علمية على وجود حياة فوق المشتري. يعتقد العلماء أن ذلك يعد أكبر دليل لاحتضان تلك المياه لكائنات ميكروبية أو كائنات حية أخرى أكثر تطورا. تشبه هذه الأخيرة الكائنات التي تعيش في أعماق البحار والمحيطات الداكنة التي لا يصلها نور الشمس.” ماما اقرئي خبرا آخر على صحيفة الحياة ” اكتشاف كميات من المياه في الفضاء لا يمكن تصور حجمها. احتمال أن الماء على الأرض جلبته مذنبات ضربت الأرض في المراحل المبكرة من تكون الكوكب قبل ملايين السنين”.

منى تلتفت إلى القلم الواقع أرضا ترغب أن يقع في جوف النهر. تكتب. سيد العباس يخرج إلى العطارين و للا فضول تشعر بضيق شديد. تخترق الغرفة الكبيرة تتفقد بعض الأغراض في الطارمة [1] .تتجه إلى الصقلبية لتتجسس على دادا الياقوت. تحط في البرطال [2] , تنزع المنديل من فوق آلة العود و تنقر نقرات خفيفة. تنادي على دادا الياقوت :

دادا الياقوت يا دادا الياقوت.

تحضر الخادم في لمح البصر, تقترب منها , تربت على كتفها توددا و تقول لها بصوت خافت:

اخرجي إلى باب الزقاق وانتبهي جيدا لدار التازي فجيراننا يهيئون للعرس. أمس قالت لي للا زينب عندما صادفتها في الزاوية الكتانية, ونحن نترحم, بأن عرسا كبيرا سيقام في زقاقنا.

قلت لها :

وأنا نازلة في طريقي إلى الزاوية التقيت المعلمة بنيسة داخلة لتصنع الحلويات , والخياط اليهودي بومقيص خارجا من دارهم.

في دار العرس كان الحدث الكبير هو الرقص, كأنه رقص على الحريق. تتراص على الباب كثيرمن النسوة, يمنحن كامل العناية والترحيب. يعرفن بالمتفرجات و يخصص لهن مكان قريب من الممر الأسطواني. يترك باب الدار مفتوحا وتوضع لهن غالبا مقاعد بعيدة عن أصحاب العرس. المتفرجات مغلفات بالحائك الذي يكسو جسدهن و اللثام مسوي على وجوههن. يظهرن متميزات عن الحضارات يرقبن للا البتول.

تبدأ المغنية بريكة تصدح بصوتها العذب وهي تحتضن آلة العود. تغني :

يا حبيبي وحبيب الناس

يا الفضة ما فيك نحاس

يا الحمام إلي في شبيك

فين غابو ليك ماليك

تخرق الصمت إحدى النساء المتزوجات منذ عهد قريب, والتي مازالت تحتفظ باسم عروس. تخرج برقصة تبهر بها خجل كل النسوة. تبدأ برقصة خفيفة تعتمد فيها على الكتفين ثم ترمي بالشربيل [3] أرضا وتمشي على أطراف بنانها في تناسق فني بديع مع حركات أصابع اليدين الملتويتين على شكل دوائر مفتوحة. تدير الكفل, قلما ترعش البطن, تجهد جسدها لتقليد سامية جمال. تمدها إحدى الحضارات بمنديل تشد به كفلها بعقدة على الجانب الأيسر فتغدو الراقصة شبيهة بسامية جمال.

للا زينب ساهية في الرقص. تقرصها ثريا في فخدها منبهة :

مدي يدك إلى الصحن و التقطي كعب الغزال. هذه حلويات المعلمة للا بنيسة, تبارك الله عليها, لا أحد يستطيع صنع كعب الغزال مثلها. تحفظه في علب الزجاج شهرا كاملا دون أن ينشف زبده.

للا زينب لا تركز على الرقص بقدر ما تركز على نوع اللباس وألوانه الزاهية. يفتنها زواج الألوان. الأخضر والأحمر زواج صعب لأنهما يحملان كل التناقض القائم في العالم. للا فضول ماهرة في زواج الألوان. يحصل الزواج عندما يضعف اللون الأحمر ويقوى اللون الأخضر. من مشربية الغرفة التي تشرف على باحة الدار , تنزل ورقة خضراء كبيرة تنبهر لها كل الحضارات. المغنية زاد صياحها والراقصة التي نزلت الورقة الخضراء على نحرها شعرت أنها في حضن شهريار وأنه اختارها الليلة لتنعم بعوالمه السحرية المغرية والهالكة. تتعجب الحضارات عندما نزلت ورقة خضراء من السماء, ألف ريال ؟ تدس الراقصة الورقة في صدرها وتترك جزء منها ظاهرا يلامس جيدها. تقترب للا البتول من ابنتها, تنزع المنديل من كفلها وتسر في أذنها :

كفاك رقصا يا فاتنة, أنا أخاف عليك من عيون الحساد, إنك حامل, الأشهر الأولى صعبة.

تجرها من يدها, تدخلها إلى الغرفة الكبيرة و تضع يدها على رأسها وتقر في صمت سورة الفلق. تنفلت من أمها و تعود إلى الرقص. للا زينب تميل برأسها على أذن ثريا و تقول لها بصوت خافت:

هذه الورقة الكبيرة الخضراء التي نزلت من السماء رماها خالي سيد الحسن, لقد حدثنا عن زيارته للقاهرة عندما كان يؤدي مناسك الحج , قال لنا أنه شاهد الراقصة بديعة مصابني وأقسم أن يعلم زوجته الرقص مثلها. وعندما عاد من الحج كان يذهب معها لسينما بباب بوجلود لمشاهدة سامية جمال. زوجته الراقصة تأخذ بتلابيب عقله, منذ زواجه وهو في حمق شديد. هو الذي أوعز لصديقه أحمد بالزواج وأغراه فكان سببا في زواجه بأختها.

توجه انتباه ثريا إلى الراقصة مندهشة , تقول للا زينب:

– إنها بحق تماثل قضيب الخيزران . قدها يناسبها, فاتنة, ألماس تتحرك ..

أسرعت للا زينب و أجابتها بعجلة :

بنات للا البتول جمالهن فاتن و الخطاب يتهافتون على خطبتهن ..

يكثر النساء من الوشوشة في الأذن. الحديث كله عن القفطان [4] والمنصورية و المضمة و. تلتفت ثريا إلى للا زينب معيرة الراقصة:

لقد جاوزت قواعد الحشمة. حركاتها مجنونة و خيط الريح على رأسها سيفلت من مكانه. العفريتة لا تتعب من الرقص.

تقول لها للا زينب :

أنت لا تعرفين رقصاتها في ضيعة خالي سيد الحسن. عندما كان يستدعي كل أفراد الأسرة للنزهة, يندهش الحضور لخفة حركاتها و خالي يسيل لعابه. يعرف أن خروجها معه إلى السينما أعطى نتائج حسنة.

تزداد الوشوشة بين ثريا وللا زينب. تقترب للا البتول بخفة وهدوء وتنحني عليهما و تقول بصوتها الخافت ذي البحة الناعمة:

كفى أيتها الشقيتان, الليل طويل يكفيكما للحديث. الآن شاركا في العرس.

تندس بقربهما أكثر وتقول :

أخي سيدي عبد الكريم طلب مني أن أخطب له بنتا تفتن جمالا, لقد حضر من مانشستر وهو يتاجر في الرايد . هل تعرفان بنتا غزالة تفتن جمالا؟

تقول لها ثريا:

بالأمس أللا البتول شاهدت في الحمام حمامة تطير خفة ورشاقة. إنها بنت للا فضول الكتانية زهور. كانت تملأ القباب بالماء من المبرمة كلمح البصر. شديدة, قوية, لحمها مثل الجبن الطري و صدرها بدأت تظهر عليه حبتان من الرمان. أنا أستغرب كيف لم تنتبهي يا للا البتول إلى هذه الحمامة الفاتنة .إنها ياقوتة في خيط من ذهب.

تنصرف للا البتول لتتفقد الخدم بالمطبخ و ابنتها مازالت ترقص. تلتفت للا زينب إلى ثريا منبهة :

الله يحفظ أخت العروس مازالت ترقص و لبستها أصبحت مكنسة للأرض.

إنه قفطان الهوى بالنوى [5] , ومنصورية الحمق فوق الجبل [6] . هما من مخيط للا فضول, غرزتها متقونة لا يظهر مخيطها والألوان التي تستعمل مزوجة في تناسق مدهش. الشيخة بريكة يخرق صوتها العذب أرجاء الزقاق و يصل إلى السطح. للا فضول محبوسة في الدار لأن سيد العباس لا يسمح لها بحضور أفراح الجيران. سيد العباس صاعقة ينزل الكواكب من السماء. للا فضول في السطح تسمع مواويل المغنية بريكة , و ابنتها زهور قرب المشربية تحلم بمشاهدة العروس الفاتن , لا يسمح لها حسب الأعراف المتواضع عليها اجتماعيا أن تخرج إلى باب الدار وتندس بين صفوف المتفرجات لترقب العروس بارزة, تتسمر قرب المشربية, تنظر إلى الزجاج العراقي و تفرح لألوانه الزاهية , أحمر أصفر أخضر أزرق, زهور لا تحب اللون الأزرق, بعض التشكيلات تحاكي تطريز غرزتها. للا فضول فوق السطح تطعم الحمام حب الزبيب , تصيخ السمع فتسمع صياح المغنية بريكة. الخادم دادا الياقوت وسط المتفرجات, تنظر في هدوء إلى تنظيم العرس وتعد أنواع الحلويات عندما توزع بين الحضارات .

منى لا تقدر على أن تلتقط القلم من فوق الأرض لتكتب. تتذكر دعاء جدتها زهور, الله يعطي حريق لقيسارية بريمة كما حرق دكان والدي بالعطارين , يعجبها أن تحكي لحفيدتها عن بعض الوقائع الغرامية التي تقع في البزازين , تقول :

البدويات, يا ابني الغزالة, يأخذن بتلابيب عقله وشغاف قلبه. كان جدك يتاجر في القماش في قيسارية بريمة وكان البدوي يشتري التكشيطة [7] لزوجته والبلوزة [8] لابنته. في أحد الأيام طلبت منه أن يبحث لي عن خادمة من البادية ,لأن دادا الياسمين شاخت ووهن عظمها وتقوس ظهرها ولم تعد تقوى على الشغل. كنت لا أعرف أسرار جلساته مع الزبونات اللاتي كن يتسللن إلى قيسارية بريمة خفية خلال زيارتهن للشيخ الكامل. عندما كانت تستبد بي الغيرة وأشتعل نارا, أطلب من الله أن تشعل النيران في البزازين كما اشتعلت في العطارين. الله يرحم والدي , كم من مرة احترق دكانه في العطارين. كنت أداوم على هذا الدعاء , الله يعطي لقيسارية بريمة حريقه . سأحكي لفاتنتي حكاية حقيقية حكتها لي والدتي الله يرحمها ويجدد عليها الرحمة. عندما كبرت, قالت لي :

في أحد الأيام تأخر والدك وعندما دخل كان يرتجف وبيده صرة, قال لي:

للا فضول الشريفة الكتانية هذا رزق جاءنا من عند الله. اقتربي مني امسكي الصرة و حطي للا زهور المباركة المسعودة على الفراش.

فتحت الصرة فبدت بداخلها جرة مليئة بقطع نقود اللويز[9] من الذهب المصفى. واستمر يحكي :

للا فضول الشريفة الكتانية عندما كنت أكسر قوالب السكر على الأرض في دكاني بالعطارين, في كل مرة كنت اسمع صوتا يهتزبداخل الأرض فامتلأت شكوكا. لما كثرت ظنوني, أسرعت لقفل الدكان وعزمت على الحفر. بدأت أحفر شيئا فشيئا وإذا بي أعثر على هذه الجرة المملوءة باللويز.

لقد قالت لي أمي للا فضول:

هذا الرياض الكبير الذي نشأت فيه اشتراه بالكنز الذي عثر عليه في الجرة. لقد سمعت هذه الأيام أن الحاج المفضل بنشقرون حفيد سيد الحسن الله يرحمه, اشترى الجفنه [10] التي كانت تزين سقف الغرفة الكبيرة, اشتراها بمائة مليون, وحملها من فاس إلى الدار البيضاء ثم ركبها في سقف الصالون بداره في حي كاليفورنيا, هذا عجب؟. إنني يا فاتنتي مازلت أتوصل كل شهر بفلوس كراء الإسطبل الذي كان يسرج فيه والدي بغلته, الآن أصبح محلا لتخزين البضائع . أللا منى في ذلك الزمان كان الناس يدفنون القطع الذهبية في باطن الأرض ومن عثر عليها أغناه الله.

منى تغرق في هلوستها. تشاهد الجفنه الخشبية الملصقة بسقف الغرقة الكبيرة . الخشب مزركش برسومات ملونة زاهية . تدس يدها في صدر جدتها, تفتح عقد قفطان الملف الكناري , تلمس سبطتها, تسمر عينيها في الجفنة الخشبية, و تنام بجوارها , تحكي لها جدتها ألف ليلة وليلة.

أشياء كثيرة تختفي وراء الخشب, نتوءاته مزركشة مبتهجة و ألوانه مفرحة زاهية .الشيء المهم عند منى هو أن تلمس بحب صدر جدتها السبط الناعم. تفتح العقد [11] , تفتح زكروم [12]. تتسلق الباب الخشبية العالية التي تعلو جسدها. تسعد عندما يحضر جدها بعد صلاة العشاء و تفتح الباب الموصدة. تندهش جدتها و تتعجب لشجاعتها وصبرها. منى تشد بقطع من الخشب بارزة متآكلة هشة و تتسلق أكثر ما يمكن, تضع بنان أصابع قدميها داخل ثقوب خشب الباب الفارغة, تتسلق, تمدد أصابع يدها إلى أعلى, تحل الزكروم و تفتح الباب. الجدة تهلل و تفرح, تعلم أن حفيدتها تستطيع أن تفتح الأبواب الموصدة. تقفز من مكانها, تمسك بيد حفيدتها, تدخلها إلى الطارمة وتعطيها حفنة من الزبيب واللوز. تقول لها :

الله يحفظ لي الألماس الحرة. أنت فاتنة وشجاعة, تقدرين على فتح الأبواب.

تعبر للا فضول الأزقة المفضية إلى الزاوية الكتانية في خيلاء وغطرسة وترنح. تمسك بيد حفيدتها لأن الأزقة مظلمة وضيقة وطويلة. عيناها منغرستان أرضا, تنبه حفيدتها بين لحظة وأخرى حتى لا تتعثر على الأرض قائلة:

أمسكي جيدا في التركيبة [13]. أسرعي لنصل إلى الزاوية الكتانية ونترحم ونعود قبل أن يحضر جدك إلى البيت. دادا الياقوت لا تقدر على طهو الطعام وحدها. سيغوث علينا, أنا أتهيب صراخه,الله يحفظ. أمولي عبد القادر الجيلاني, أمولي بغداد, الله يحفظ ؟

حفيدتها تشد بذيل التركيبة. تبتسم وتسر عندما تتذكر أنها استيقظت على صوت جدتها للا فضول وهي تدللها وتداعبها :

أللا وللا,

دار السلطان عالية

فيها خوخة ودالية

فيها البنات زاهية

فيها الحب بلا قياس

فيها صهريج من النحاس

يصب العسل بلا قياس

الصبية تتعثر..الجدة تقول:

أسرعي,أسرعي و امسكي جيدا في التركيبة. جدك كلمته الأولى أنت حرام علي بالثلاث .

لا يفتأ يرددها غاضبا و يلعن ذهابي إلى الزاوية للترحم. الأهداب المسدلة من التركيبة الزرقاء و التي تمسكها الصبية تحفز على اللعب. تلعب بأطراف التركيبة , تتعثر. جدتها تنبهها عند التلكؤ:

انتبهي و امسكي جيدا بالتركيبة.

للا فضول تقترب من باب شبه موصدة, يقف عليها رجل مسن, لحيته بيضاء توحي بالوقار والاطمئنان و .والموت. لا يرفع عينيه نحو المرأة الغلفاء ذات الحائك الأبيض. يقول لها وعيناه منغرستان أرضا :

للا الشريفة الكتانية.

يفتح لها الباب و تمده بقطع من السكر. تتعثر قدماها في أتربة المقبرة غير المستوية. تخطو خطوات إلى أعلى, تجلس على حافة قبر منسي و تلتفت إلى حفيدتها مشجعة:

اقرئي الفاتحة. اقرئي ما علمتك إياه للا أمينة في دار فقيهة.

تقرأ الصبية بفصاحة وغبطة. تقرأ كل السور التي حفظتها في دار فقيهة و تردد معها جدتها بعض السور. تتوقف الجدة و تقرأ الصبية وحدها. تبتهج عندما تقرأ حفيدتها آية الكرسي و في النهاية تقول بصوت رقيق:

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

تهلل السيدة للا فضول مبتهلة شاكرة لله:

تبارك الله , حفيدتي أصبحت عالمة صغيرة. ربي يحفظ لنا الفقيهة للا أمينة .

تنحني للا فضول على قبر والدتها, تقبله وتدعو دعاءها المعتاد أن تحج لترى النور يشرق في بيت الله.

تتساءل منى الآن, وهي بالقرب من طفلتها رهام, لماذا يذهب الناس إلى الترحم على قبور آبائهم وأجدادهم, وأمام أضرحة قوم هم أولياء الله في نظرهم؟ حالهم في هذا كحالهم في ترجيهم بالعميان والعرجان والشيوخ الهرمين والفقراء المعوزين وما شابه ذلك. ثقة الناس في الموتى لا تعادلها ثقة أصلا, ما السبب ؟ . فقدوا الثقة في الأحياء المبصرين فظنوا أن الثقة بالغير لا ينبغي أن تتجه إلا إلى ما يباين هؤلاء. ظنوا أن الموت يحمل معه إلى الموتى الصدق والصلاح والاطمئنان. فلذلك اشتغل بعضهم بالتاريخ الذي هو علم أعمال الموتى, واشتغلت طائفة بالقبور نفسها واعتقدوا أنها مصدر خير, وأن من وقف عندها رضي الله عنه. دخل في علمهم أن الله لا يعلم ما في قلوبهم فأرادوا أن يظهروا له ذلك بأفعال الجوارح, إذن فهم مخطئون مرتين بل مرات.

منى علمت أن للا فضول كانت بارعة في طبخ قدر الحمام باللوز وذلك لتميز مذاق الحمام الذي تطبخه. سر الطبخ اللذيذ هو أنها تطعم الحمام بقايا حب الزبيب. زوجها سيد العباس كان يداوم على شرب عصير الزبيب. تعصره وتصفيه في خرقة رقيقة بيضاء من نوع حياتي[14]. تترك الخرقة مفتوحة في السطح حتى يجف بقايا الزبيب ثم تطعمه للحمام. للا فضول يؤنسها الحمام لقد اشتدت صحبتها معه في السطح. تنزل إلى البرطال, تمدها دادا الياقوت بالعود, تمسكه تنقر نقرات خفيفة و تغني بصوت خافت ناعم:

يا محبوب عايروني بك الناس

قالوا هذا هبيل صاحبته خادم

هبيل بن هبيل من يقول الياقوت خادم

تبتسم دادا الياقوت. للا فضول تنقر نقرات خفيفة, لقد تعلمت هذه النقرات من جدتها, قالت لها :

– هذا العود أعز ما أملك, ورثته عن جدة جدتي التي أهدته لها جدتها من غرناطة. سأعطيه لابنتي للا زهور يوم صبوحها ليكون مؤنسا لها في لحظات غربتها القاسية.

منى لا تعرف للا فضول ولا جدة جدة للا فضول, لكن مثلهن تشعر بالغربة ما بين لهيب الرستاق وصقيع كيبيك, ترحل لتلتقي بصاحبها وبابنها ثم تعود إلى بلدها مرغمة وملغمة. أيهما أشد قسوة غربتها أم غربة جدة جدة جدتها بغرناطة؟. عندما قرأت مسرحية المهاجر عرفت أن أم أحمد السائل هي جدة جدة للا فضول. افتح مخطوط المهاجر, الذي نال عنه صاحب منى جائزة المسرح, اقرأ صفحة تسع وتسعين يقول أحمد السائل:

لقد سوينا صومعة الجامع بالأرض كما ترونها, ووجدنا عجبا جئنا نخبركم. وجدنا صندوقا من حجر و في قلبه وجدنا صندوقا آخر من رصاص, ثم وجدنا بداخل الصندوق رقا مكتوبا بالعربية والقشتالية, ووجدنا فيه نتفا من خمار السيدة مريم عليها السلام …

المسرحية لم تذكر زيارة أحمد السائل لجدته. أحمد السائل كان يزور خفية جدته التي بقيت في سكنها بغرناطة, فيجدها تنقر نقرات الوجع لرحيل أهلها. تنقر نقرات الحنين على أوتار العود فيتوجع كل نساء العالم, تغني بصوت شجي لرحيل ابنتها الوحيدة إلى مدينة فاس. أخفى حفيدها أحمد السائل عند جدته النتف إلى حين رحيله إلى فاس عند أمه. حمل معه نتفا من خمار السيدة مريم و العود الذي حمله هدية من جدته إلى أمه التي هي جدة جدة للا فضول. أحمد السائل ترك بعض النتف عند ابنه الوحيد الذي لم يفارق قريته التي تقع بالقرب من غرناطة وأحب ماريا التي هاجرت إلى أمريكا وتركته . استنبتت البركة من نتف خمار السيدة مريم في بعض حفيدات جدة أحمد السائل وجدة جدة ماريا , وأصبح الله يستجيب لدعواتهن. للا فضول تحتفظ بنتف خمار السيدة مريم, طلبت من الله أن يرزق زوجها كنزا حتى يهدأ روعه ويقل غضبه ويزكو ماله. ماريا هي الأخرى تطلب من الله أن تدخل بغداد آمنة مطمئنة . تلكز رهام أمها تقول لها:

لقد حفظت مادة التاريخ. أريد أن أستظهر عليك قبل أن يبدأ مسلسل سلستي. اسمعي : عهود الخلق والتاريخ

· طور القرون الأولى قبل موسى عليه السلام

· طور التوراة ونزولها على موسى عليه السلام .

· طور الإنجيل ونزوله على عيسى عليه السلام

· طور القرآن الكريم ونزوله على محمد عليه السلام .

رهام مبتهجة لأنها تستظهر دون تلعثم. أمها تبارك قوة الحفظ عندها , تتعجب لأن بنتها لم تتوقف عند الاستظهار. يزداد صوت رهام ارتفاعا تقول :

عاد وثمود لم يوجدا على كوكب الأرض. هم قوم وجدوا على كوكب المشتري وهلكوا, وخلق الله قوما آخرين على كوكب الأرض

منى تردد دعواتها:

الماء .. أمولي عبد القادر الجيلاني. الحريق ببغداد.

رهام تستظهر. منى تقلب دفتر القاموس اللغوي:

حواء هي قسم من أقسام الاشتقاق اللغوي لجدر الحاء والواو والياء, وتعني الولود. حواء هي الشديدة الاشتمال والاحتواء. الاحتواء في اللغة العربية يكون بالجنين.

منى مازالت تقلب دفتر القاموس اللغوي, تقرأ:

أنثى = أنسى,* ث * انقلبت *س*. إنثان = إنسان, احتفظ بإنسان ونسي الأصل إنثان, والأصل هو أنثى .

رهام تستظهر على والدتها مادة النحو:

الأسماء الستة هي: حم, أب, أخ, هن, فو, وذو.

الأم تنبه ابنتها:

خطأ الأسماء الخمسة؟

رهام:

ماما, قالت لنا المعلمة , هن حذفه النحاة لمعناه الجنسي المؤنث .

الأصل الأسماء الستة. وقع قديما حيف عبر تاريخ اللغة العربية فالقواميس من صنع الرجال, ولهذا ساد التسلط اللغوي منذ حقب قديمة كما ساد تسلط الرؤساء الطغاة.

تعود تقلب دفتر التربية الوطنية, تقرأ:

القافات الخمس : القرابة, القسامة, القنانة, القحابة.القوادة .

تنزع رهام دفتر من يد والدتها تقول:

مادة التربية الوطنية لا نحفظها, المعلم يرفض استظهارها.

منى تنحاز إلى ركن و تحاول لملمة الأوراق التي تخص أطروحتها. تختلط الأوراق مع دفاتر ابنتها رهام و قصاصات الصحف هي الأخرى تندس وسط الأوراق. تنسل قصاصة تقرأ : مشروع خطة العمل الوطني لإدماج المرأة في التنمية ونظرية العماء وصمت العلماء.

تدخل مهرولة إلى المطبخ, تشم رائحة حريق طنجرتها إنه الحمام القدر باللوز. رهام ترقص وتطوح بالدفاتر أرضا. تنهمك في الرقص غافلة عن الحريق و مستسلمة إلى شيء خفي يحرك جسدها الفتي. منى خائفة, تصب الماء في القدر, أمولي عبد القادر الجيلاني أمولى بغداد . رائحة الحريق, ماء ماء ماء.


[1] – الطارمة : غالبا ما تكون في ركن داخل الغرفة وهي خزين لبعض الأشياء الخاصة كالأكل المتميز مثل الفواكه الجافة . والنتف المتميزة , واللباس إلى آخره .

[2] – البرطال : مكان مفتوح على باحة الدار الغرض منه التجمع .

[3] – الشربيل : حداء نسائي تقليدي

[4] – الوندريز :

[5] – الهوى بالنوى : إسم لنوع من لباس المرأة

[6] – الحمق فوق الجبل : اسم لنوع من لباس المرأة

[7] – التكشيطة : لباس المرأة التقليدي

[8] – البلوزة : لباس المرأة الأوربي

[9] – اللويز : قظع من الدهب

[10] – الجفنة :

[11] – العقد: الأزرار

[12] – زكروم :

[13] – الركيبة :

[14] – حياتي : قماش أبيض شفاف