الفصل السابع

كنزة

سيدي امحمد شغوف بترتيل القرآن الكريم بالغدو والآصال, و يداوم على أن تستظهر عليه صاحبته الأدعية. هي مشغولة بكل الأعباء داخل البيت وخارجه فالزوج العجوز يوكل إليها التصرف في كل مهام الأسرة ويطيب له أن يحدثها عن الكرامات. يقول لها:

للا كنزة, سمعت بولي صالح ينتشر في الناس خبر كراماته فيفدون عليه. يخترق الجدار. يصلي العصر في مكة وهو يقيم في فاس. يزرع حبة فتغدو حقلا من الشجر المثمر والمظلل.

يموت الولي الصالح ذو الكرامات, والذي كانت حياته جملة من الأفعال الدالة على قدرته المتحدية لقوانين الطبيعة. ينسى أتباعه أنه لم يستطع أن يتحدى قوانين الموت. يموت فيغدو قبره قبة مباركة.

كنزة تنط على دابتها في اتجاهها إلى الزعيم الوطني المنفي. تقول في نفسها:

سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين, وإنا إلى ربنا لمنقلبون. الحمد لله, الحمد لله, الحمد لله. الله أكبر, الله أكبر, الله أكبر. سبحانك, إني ظلمت نفسي, فاغفر لي, إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

تعود بعد زيارتها للزعيم المنفي, تسمع آذان المغرب و تردد بصوت خافت:

اللهم هذا إقبال ليلك, و إدبار نهارك, وأصوات دعائك, وحضور صلواتك, أسألك أن تغفر لي…. اغفر لي…

تنظر إلى الهلال وقد أهل شهر شعبان المبارك, تقول في نفسها:

اللهم أهله علينا باليمن والإيمان, والسلامة والسلام.

تصوب نظرها صوب الهلال, بجوارح مكلمة متضرعة, تردد في نفسها:

اللهم بارك, بارك, وأفئ عليهما من خيرك, إنهما أعز ما أملك.

للا كنزة تخفي في نحرها صك قسيمة كتبت بخط مغربي جميل وبحروف واضحة.

رقم 88676

الحمد لله وحده.

نحن الشقيقين الموقعين أسفله عبده ومحمد, نشهد أنه قد انعقدت الشركة بحول الله وقوته بيننا. دفع الأول وهو محمد أربعة ملايين, والثاني وهو عبده مثلها. وحاز الجميع عبده, واتفقا أن يتجرا في الخشب, بالمال المذكور, بغابة تافاغات والخشب اليابس بغابة تعريشت. فوض محمد لشقيقه عبده في البيع والشراء والأخذ والعطاء, وعلى محمد العمل. وما يفئ الله عليهما في ذلك من الربح يكون أثلاثا بينهما, لعبده الثلثان ولمحمد الثلث. وعليهما في ذلك بتقوى الله العظيم من لا تخفى عليه خافية في السر والعلانية. انعقد صحيحا في شهر شعبان سنة 1371 , موافق مايو 1952.

الإمضاء عبده , محمد.”

اعتاد شقيقها محمد أن يخبئ عندها بعض العقود والوثائق المهمة. تبارك الشركة, وهي في طريقها إلى الزعيم المنفي الذي اعتادت أن تحمل له الغذاء الشهي بعد الظهر. السيدة كنزة صعبة المراس, عظامها قوية, عضلاتها مفتولة وصلبة, خفيفة الحركة, هيفاء, تنط على البغل في لمح البصر, لا تعرف الكسل ولا التهاون. العمل عندها عبادة متواصلة, من شروق الشمس إلى غروبها. بعد زيارة المنفي, تعرج على معمل منشار شجر الأرز لتطمئن على أخيها. تحكي له بعض هموم أبناء زوجها وتتوسل له أن يشغل أحد أبنائه المنحرفين فيستجيب لها. تجهد جسدها لتوفر محصولا زراعيا وفيرا كل سنة, فالزوج المسن المقعد بيتا لا يبرح غرفته وهي بجواره نعم المرأة الصالحة, تؤنس وحدته وتحفظ أدعيته. كذلك هي نعم الأم, تحنو على صغارها, وتحكي لهم حكايات الحب والسياسة.

تقترب من قدر الرائب, حليب البقر الطبيعي, بعد أن تركته يوما أو بعض يوم يروب, ولا تأخذ منه زبده. أسعد لحظاتها عندما تحمل قنينة الرائب إلى المنفي , مع خبز بداخله قطع مختارة من لحم الغنم مشوية على نار خافتة تترك اللحم ينزف دما, تعرف أنه يلذ له استواؤه على الطريقة الفرنسية, لا تضيف له عطورا. اعتاد المنفي أن تزوره كنزة. زوجها المسن لا يمانع في خروجها لأنها تغمره ودا وحنانا ولطفا, تلبي طلباته بسرعة البرق و ترافقه بمهمازه وهو يعبر أركان الغرف متفقدا سكنه , تخبره أن أخاها سيشغل ابنه الطائش في المنشار فيستبشر خيرا. تطلب منه أن يرسل ابنهما الصغير إلى باريس لاستكمال دراسته. تحنو عليه بعطف شديد وتتودد له . تقول والأمل يشع في عينيها:

أ ريد أن يدرس ولدي البوليتيك في باريس.

يرد غاضبا:

هذا حرام و خزي. ولدي سأبعثه إلى فاس ليدرس في القرويين.

يشتد غيظها وتغرق في حزن عميق. تستحضر كل أحاديث الزعيم المنفي عن دراسته في باريس, ورحلاته السياسية بين جنيف ومدريد. تتذكر بإعجاب وانبهار أحاديثه :

سنة 1931 غادرت فاس إلى باريس. سنة 1932 ألقيت محاضرة بباريس عن السلطان الحسن الأول والنهضة المغربية, وفي نفس السنة سافرت إلى جنيف حيث تعاونت مع الأمير شكيب. اضطررت إلى مغادرة سويسرا بسبب نشاطي السياسي فتوجهت إلى مدريد حيث شاركت في تأسيس الجمعية العربية الإسلامية.

يحكي والعظمة لا تسعه عن زمن دراسته وتفوقه. السيدة كنزة ترغب أن يدرس ولدها البوليتيك مثل الزعيم.

سيدي امحمد يجهد جسده في العبادة وقراءة القرآن قبل الفجر. عندما يصلي يصيب الوهن جسده المترهل, فيستسلم إلى النوم. تستيقظ كنزة في الصباح مبتهجة فرحة لشروق شمس جديدة. يحل الظهر والعصر لا شيء يتغير, تستعد للخروج فيتغير كل شيء. تجد حريتها وحقوقها وذاتها في خروجها من البيت. إنها امرأة قوية, ليست موضوعا لمتعة أي رجل, ولا جسدا ساقطا لنظرات بعض الرجال السفلة. تغض البصر, تستحي و تنط على فرسها بفخر واعتزاز. لا تضع نقابا يجرح عينيها, تعلم أن النقاب يلقي على مناطق في الجسد الأنثوي أقل مشاركة من العين. العين خلقها الله سبحانه وتعالى للرؤية. وجه كنزة عار. لا يشك زوجها في خروجها عندما تتزين تزينا بسيطا لا يلفت النظر, تعتمد فيه على الماء.

القرية كلها تعلم بتردد كنزة على سكن المقاوم السياسي ويعتبرون زيارتها مقاومة من أجل خروج فرنسا. عند قدوم زوجة المقاوم من فاس لزيارته رفقة أولادها, لا تصيبها الغيرة من كنزة. كنزة سيدة محصنة عفيفة , مثل للأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة, وكل أهل القرية يشهرون ذلك. الزعيم نسي منفاه وكأنه يقيم في قرية جميلة للاستجمام والراحة. عندما تزوره , يخلد إلى الصمت, وعندما يتحدث إليها بصوته الرخيم الرقيق تبدو سعيدة و تبتسم.

الزعيم المنفي يخاف عليها, عندما تزوره, من حر الظهيرة و رمضاء ها . تلمس في عينيه وهي تودعه ودا وحنانا جارفا. لا شيء أجمل في هذه القرية من السيدة كنزة. إنها نار مشتعلة, لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها. تعطي بسخاء الغذاء النقي والطبيعي واللذيذ, لا تستعمل البهارات. ما بقي لها من زمن ما بعد الظهيرة تنشد فيه الخلوة إلى ذاتها, وكأنها ليست زوجا ولا أما ولا طباخة ولا فلاحة. إنها بحق فنانة تنسج من صوف الغنم نسيجا, و في فوضى النسج تخلق قطعة تهديها إلى الزعيم المنفي, ليخيطه بفاس جلبابا أمازيغيا يحميه من زمهرير برد القرية القارص لشتاء المقبل. تجلس القرفصاء, تنسج وكأنها للا فضول تنقر على العود. اختارت لون شعر الجمل, وشكلت بداخله رسوما مربعة بلون البرتقال. تسرع في النسج لتحمل الهدية. تشتغل حتى منتصف الليل, فتيل الزيت مضيء داخل قنينة الزجاج يسعفها على النسيج. تبدأ الشغل مع أول إشراق الصباح, وتنتهي قبل غروب الشمس. يتعجب الزعيم المنفي, الفرحة تغمره وهي تمده بقطعة نسيج الصوف. لم ينبس بكلمة, ظل صامتا كعادته يرمقها بخوف وحرج, ويغض بصره إكبارا وإجللا. يصمت, يضع قطعة الصوف على كتفيه منتعشا, يظل يتمسح بأذيالها لحظات ثم يقول لها:

سأبعث بهذه القطعة من الصوف الجميل لصاحبتي, لتخيطها بفاس جلبابا رائعا. ما أجمل هذه القطعة المنسوجة بيدك سيدتي للا كنزة …

يعبث الزعيم بنتف قطعة النسيج و يقول لها مازحا:

فحمل مغازل للنسوان أولى لهن من اليراع مقلمات

لا تفقه قوله, ولو فقهت قوله لقالت “حسبي الله ونعم الوكيل” لعن الله أنانية هذا الشاعر, يريد أن ينفرد باليراع ويتمتع بدفء قطعة المنسوج ؟. نرجسية الشعراء عمى وظلال. تصمت .

تخرج متعثرة في مشيتها, تمتطي فرسها, يكسوها الخجل وتحمر وجنتاها. الآن لم تعد تبحث عن ظل في طريقها إلى البيت, إنه فصل الشتاء والبرد قارص, لكن دفئ الزيارة يشعل جسدها لهبا, وينير طريقها أملا وإشراقا وتوهجا, تحلم لحظة . تلمس برفق قسيمة صك الوثيقة التي أعطاها لها أخوها محمد. هي لا تعرف القراءة, لكن تعرف أن الوثيقة مهمة. ما هي بقارئة, لكنها فنانة تنسج قطع خيوط الصوف, لتشكل قطعة منسوج لجلباب فاخر. كنزة تعرف الحب, وتعرف السياسة وتكره الحرب. تعبر الطريق إلى بيتها, و زمهرير من البرد يعصف بقلبها. تعقد العزم على أن تنسج قطعة صوف للزعيم المنفي الشتاء المقبل.

الزعيم الوطني المنفي يتجول في سوق القرية, يسمح له بذلك يوم الاثنين. إنه شاب يتجاوز الثلاثين بقليل, نفي من مدينة فاس إلى هذه القرية, وأمضى بعض الشهور في جهات من جنوب المغرب منفيا عن أهله. يتكلم الفرنسية بطلاقة كما يجيد العربية. كان من أوائل المغاربة الذين اتجهوا إلى باريس قصد التحصيل والمعرفة. درس فيها بعد إعلان الحماية العلوم السياسية, ولاحظ مبكرا تناقضا بين سلوك فرنسا في المستعمرات وبين ما يدرسه في معاهدها, وخصوصا أفكار الثورة الفرنسية. عاد إلى المغرب وشارك في ما يدعى بالحركة الوطنية. نسي في تحليلاته شيئا واحدا هو أن الاستقلال لا يعني بالضرورة سيادة الأفكار الاجتماعية والسياسية النظيفة التي درسها في معاهد فرنسا, كما نسي أمرا آخر هو أن الحكم الوطني ليس بالضرورة نقيض الظلم والقهر. كان يعتقد أن هذه المعاني السوداء لا يمثلها إلا الاستعمار الفرنسي. كان الزعيم الوطني المنفي مرة مرة يكتب بعض الملاحظات من خلال قراءاته, وهو يستجم في القرية الجميلة, من بين ما كتب : “… المصيبة في هذه القصة التي يرويها فكثور هيكو هو مقاومة الجمهوريين الانقلاب الإمبراطوري, وخيانة لويس نابليون بونابرت…”

وسط حلقة مكتظة في السوق, كان يلتف أهل القرية حول الزعيم الوطني المنفي. صبية وشبانا وعجزة يحدثهم بلطف وغرور:

… قال أبو الحسن: كان نافع بن علقمة واليا على مكة والمدينة, وكان شاهرا سيفه لا يغمده. بلغه أن فتى من بني سهم يذكره بكل قبح, فلما حضر أمر بضرب عنقه, قال الفتى: لا تعجل علي ودعني أتكلم. قال : أو بك كلام؟. قال: نعم, وأزيد يا نافع, وليت الحرمين, تحكم في دمائنا وأموالنا, وعندك أربع عقائل من العرب, وبنيت ياقوتة بين الصفا والمروة, وأنت نافع ابن علقمة أحسن الناس وجها, وأكرمهم حسبا, وليس لنا من ذلك إلا التراب, لم نحسدك على شيء منه, ولم ننفسه عليك, فنفست علينا أن نتكلم. قال: فتكلم حتى ينفك فكاك.

يزداد أهل القرية التفافا حول الزعيم, وهو يحدثهم عن ‘البوليتيك’ الذي درسه في باريس. الزعيم يخاطبهم بالعربية مختلطة بالفرنسية. يحكي عن حركاته في مدن المغرب.

سنة 1942 سبتمبر, أكتوبر ونوفمبر في مدينة تطوان اتصلت بالوطنيين المغاربة, ونسقت معهم برنامج العمل. كان من بين رجال تطوان رجل ذو مال وفير, لا يهتم بالسياسة, لكنه يغدق علينا من أمواله ما يسع نفقاتنا.

سنة 1943 غشت أصدرت في فاس جريدة باللغة الفرنسية.

سنة 1947 سبتمبر ساندت الحركة الوطنية بمكناس على إثر حوادث وادي بوفكران, وكانت لي اتصالات مع الوطني الغيور الطاهر. لقد كان من زمرة المهتمين بالقضية, وقد أقام زمنا بمناطق الأطلس, وخاض مغامرات وطنية قبل مجيئه إلى مكناس. كتب قصيدة مشهورة عن ولعه بالوطن يقول فيها:

لله في أرض المغرب جنة سحرت قبيلا أنفس الشعراء

المقاوم السياسي بالقرية يدفع عن طريقه حمارا أسودا مختلط لونه ببياض, وراء الحمار يقف عبد وأخوه محمد. إنهما من شرفاء سكان القرية نسبا , يقدمان المساعدة للفقراء والمحتاجين. يتشاوران في تأسيس حزب شعاره ‘الحمار’ لأنه يمثل الطبقة الكادحة والمتوسطة العاملة, التي تجهد نفسها في الشغل المتواصل وتؤازر الحركة النسائية وكل من يعاني شظف العيش. يبادرهما الزعيم بالكلام :

ماذا تفعلان؟

يجيب عبده على الفور:

إننا ننتظرك. كنا خائفين أن يضيق عليك ‘القبطان’.

يرد متغطرسا:

من أين جاءكما هذا الإحساس؟ وهل أخبركما أحد؟.

لا لم يخبرنا أحد, لكن نخاف أن يعلم اتصالاتك بأهل القرية, فيقرر التضييق عليك.

يخبرهما أن التضييق لا يخيفه, وأنه جرب النفي والتضييق وخنق الحرية في السنوات الماضية بالجنوب الغربي من البلاد. الشقيقان عبده ومحمد يباركن شجاعته. يسألانه عن تطور الحركة الوطنية بفاس والرباط والدار البيضاء, تلك البقاع البعيدة التي تشهد نشأة الوعي بالذات أمام القوة الأجنبية المسيطرة. كانا يتظاهران بالموافقة على كل ما يلقى إليهما من مطالب وآمال, لكنهما ما كانا يجاوزان الموافقة الظاهرة إلى الانضمام إليه في حركته المنظمة. كان أحدهما أكبر من الآخر, وكان الأصغر منهما لا يقدم ولا يؤخر رجلا إلا بإذن الأكبر. قبل وصول زعيم المستقبل إلى مكانهما من السوق كانا الأكبر يقول لأخيه محمد:

إن ما يقوله هذا الوطني المنفي جميل. إنه شاب لم يبلغ الثلاثين, إنه في مثل سني أو يكبرني بقليل, و لكنه طافح بالخيال والهمة والغطرسة.

كان لا يفصح عن هذه الانتقادات إلا نادرا, أو صحبة أخيه في خلوتهما الصادقة. كان يرى أن فرنسا لن يخرجها من البلاد إلا تطور يحدث في الظروف الدولية, وأنها لا يمكن أن تخرج بضغط من شعب أعزل, ولا من حركة منظمة أو غير منظمة, سلاحها القلم واللسان. كان يعلم أن زعيم المستقبل لا ترضيه هذه الحقيقة, لذلك كان يتظاهر له بالموافقة على قوله بأثر النضال السياسي على المستعمر.

منى طفلة اشتد عودها, وبدأت تسافر إلى القرية الجميلة لتزور عمتها كنزة. تعبر سطوح القرية المتوالية والتي لا تعلم لها حدودا ولا نهاية. كان من عادة أهل القرية أن لا تخرج البنت من باب الدار إلا برفقة محرم لقضاء حوائجها الضرورية, وإذا أرادت أن تزور أهلها فيتم العبور إليهم عبر السطوح المتلاحمة والمتشابكة. كانت تتردد على سطوح القرية و تقطعها من أعلى إلى أسفل.

للا الشريفة زوجة عمها تنام عند الظهيرة, فيفقد البيت الكبير المتباعد الأطراف الرقابة والصرامة المفروضة, ويغرق الخادمات في حاجاتهن الشخصية من نظافة وغسيل وترتيب ملابسهن. يروج بينهن خبر الخادمة فاطنة وعلاقتها بالسائق, واستحواذها على تلابيب عقله وشغاف قلبه. حصل ذلك عندما كان يوصل إلى البيت سلة اللحم والخضر . السائق كان على خلق كبير وطلب الزواج من للا الشريفة ربة البيت. وافقت على خطبتها, وأعلنت أن الشهر القادم ستزف عروسا له.

منى تتسلل إلى باب السطح في حذر وعجلة بخفة البرق. من سطح إلى سطح, تصل إلى سطح عمتها, وتصرخ بصوت عال:

عمتي كنزة.

تمد لها سلم من خشب الأرز, فتنزل بسرعة, وتزرع في حضنها وتقبلها قبلات صادقة. تحضنها أكثر من ساعة, تشعر أن حضنها يختلف عن حضن جدتها زهور. تدخل يدها بسرعة, تلمس صدرها فلا تجد العقد بقميصها. تصاحبها عمتها كنزة إلى غرفة مظلمة, وتصب لها, من القدر الطيني, الرائب طريا طبيعيا باردا. تمسك بملعقة الخشب و تحرص بنباهة على أن لا يتفتت ولا يتكسر الرائب, ترغب فيه قطعة واحدة متماسكة. تتحايل عليه لتجمعه قطعة مجمدة بالملعقة, تلقيه في حلقها, وتحمد الله على أنه لم يتكسر قبل البلع. يلذ لها احتواء الزبد المتجمد على واجهة القدر الطيني. تأكل بنهم, ويسري الرائب في جسدها مغذيا منعشا لذيذا.

تجلس على هيدورة صوف الغنم, بالقرب من عمتها, ترقبها تشكل لوحات فنية رائعة. تسند رأسها على صدرها, تنسل يدها بداخل قميصها بسهولة, لا توجد ‘العقد’, القميص مفتوح. عمتها تسلك رتق أصابعها داخل شعرها القصير, وتقول لها:

لا, لا تتركي أمك تقص شعرك هذا حرام؟ ‍‍

ترد على الفور:

أمي يتعبها تصفيف شعري الطويل في الحمام, تقول الشعر الطويل ليس موضة. عمتي هل تعلمين أن بنات خالي كلهن قصصن شعرهن؟

تزداد التصاقا بعمتها, تشد النظر إليها بحب وإعجاب وهي تنسج خيوطا. تتوقف كنزة لحظات عن النسج, تغني وتتأمل ثم تنسج بسرعة البرق. تنسج قطعة صوف لأخيها محمد, تخاف عليه من برد القرية. منى الطفلة الصغيرة تشعر بالخوف العارم يكتسح جسدها, تخاف أن تستيقظ من النوم زوجة عمها للا الشريفة و تعلم بخبر زيارتها لعمتها عبر السطوح. للا الشريفة تحذرها من الصعود إلى السطح, تخاف عليها أن يصيبها مكروه. كنزة لا تخاف وتخرج, كان ذلك قبل أن يستقل المغرب. منى لا علم لها بذلك, ليت عمتها تسر لها ببعض الزيارات التي تعتبر مشاركة في النضال الوطني وخروج فرنسا من البلاد.

منى تجد في هذا العبور العلوي شبه بالنفق المفضي إلى الأسواق التجارية بكيبك العاصمة. تعبر النفق من أسفل لتصعد إلى أعلى ثم تدخل مجمعا تجاريا, وتتجه إلى جناح الأغذية لتبحث عن الرائب نوع ‘ ليبغط يوكورت ناتير’.

منى تريد أن تتخلص من الماضي من التاريخ. التاريخ الذي قرأته كذب, تبحث عن التاريخ في المكان. منى توجد الآن بداخل غرفة ب ‘بافيو بارو’ رقم 8517 بجامعة لافال كيبك, في زيارة لولدها أسد بكندا. تداوم على المشي تبحث عن الحب والسياسة. تعبر راجلة الساعات الطوال, تستبد بها هموم الإنسان في كل المكان, حيث يكثر الدم والدمع ويقل الماء. تحب كندا لأن ماء كثير, تغمرها مياه شللات نياكارا. تتوقف عن المشي لتشاهد العشب الأخضر المحاذي لجامعة لافال. منى متعبة, تحمل هموم الماضي والحاضر والمستقبل. تتشابك عندها الأزمنة في تداخل مخيف و يختفي المكان. تشعر أن لا مكان لها حقيقة على كوكب الأرض إلا هذه القطعة التي تقف عليها الآن, العشب أخضر. تتجول بمدينة كيبك القديمة, تجد أن أزقتها فيها دفئ كثير مثل أزقة غرناطة. المكان يتوزع عندها في بقع عديدة من العالم, تبتعد عنها وتقترب منها. تتذكر قول صاحبها حين طلبت منه أن يشتري لها مرطبا للجسد ‘كلاغانس’ من مدينة مسقط ربيع هذه السنة. قالها:

أنا أصرف مالا كثيرا على عقلي ليروق ويشفى, أنت تصرفين مالا أكثر مني على جسدك لينتعش ويتغذى. لقد بحثت عن ‘كلاغانس’ لكن لم أعثر عليه. السلع الفرنسية نادرة بسلطنة عمان.

منى بخلاف صاحبها تمنح جسدها عناية كبيرة, تعرف أن بالجسد يروق الفكر. لا تشغل فكرها إلا في حالات جمال جسدها وأناقته وانشراحه . تجلس على حافة كرسي داخل حديقة قرب مراكز التسوق بكيبك وتقرأ قسيمة كتب عيها: ‘Clarins vous écoute et vous conseille . تدخل القسيمة وسط غلافها, تضعها في حقيبتها, ثم تخرج من الحقيبة ديوان شعر, وتقرأ العنوان: ‘يلف خصر الأرض’ طبع بواشنطن سنة 1992. تفتح الديوان وتقرأ قصيدة:

طعم الغربة كطعم التردد.

يحضرها بيت شعري آخر لغادة السمان:

… فيها الغربة ليال طوال للحوار مع الجدار.

تردد شعرا حفظته لشاعرة مغربية تقيم بنيويورك:

I want water, water.. Not the riverbed

And wind, not the course of wind, but wind.

منى تريد الماء, تبحث عنه في كل رقع العالم. لا تشعر بالغربة, يروق لها أن تعبر البقع الخضراء وأن تشاهد الماء يتدفق من النفورات. الماء مرتبط عندها بالطفولة, وبمياه الأطلس, وبحيرة أكلمان سيدي علي, وعمتها كنزة. منى تشم رائحة الرائب الذي تحمله عمتها إلى الزعيم, الرائب ينساب. كشفت عن ساقيها بلمح البصر, شدت القنينة وأعادتها لتخفيها داخل صدرها. تتمهل في رحلها إلى الزعيم, الفرس هو الآخر يعلم أنها لا تريد الإسراع لأنها تخاف أن يتدفق الرائب, تريد أن يصل إليه كاملا. في لحظة سهو تسرب الرائب وكشفت عن ساقيها. أي أحلام يقظة كانت تراودها وهي في طريقها إلى الزعيم منفي؟. انفلتت من بين صدرها قنينة الرائب أدركتها بيديها, أعادت القنينة إلى صدرها, وأخذت تدهن ما انساب من الرائب على باقي أطرافها العارية. الرائب مرطب, تسقي جسدها لبنا طريا, وتصاب بسنة شبيهة بالحب والسياسة.

سقي الجسد عند السيدة كنزة ليس الغرض منه الحفاظ على الشباب الدائم, بل الغرض عندها أن تغذي جسدها وتجعله لامعا و مشتعلا. هي لا يوجد عندها ‘ كلاغانس’.

منى تشم رائحة الرائب. تعبر ممرات المراكز التجارية الضخمة, تتوقف عندما تشاهد مكتبة كبيرة, تدخل, تبحث عن صحف عربية, تقترب من رفوف الصحف, تمسك بيدها صحيفة الحياة, تقلب أخرى مكتوبة بحروف عربية لكن لا تستطيع قراءتها, تعرف أنها ليست لغة عربية. تعود تشد صحيفة عربية و تقرأ:

صحيفة الحياة 19- 8- 1997

قنابل وجرا فات

إدوارد سعيد

أستاذ الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة كولومبيا

لا مكان للسلام ما لم تتخذ إسرائيل وحلفاؤها الأقوياء خطوة مخلصة نحو ضحاياهم, خطوة يقدمون عليها بروح التواصل والتصالح …’

تعود تدخل غرفة ولدها أسد رقم 8517, تخط على ورقة أفكارا راودتها بسرعة على عجل:’ … جماليات التفكك وتشظي والتضاد, إنها شعرية علاقات التجاور والتشابه والتقارب’. تنحني بسرعة تمسك بكأس رائب, تجده شبيها برائب عمتها. تنشد الوحدة الكونية في خضم تفكك هذا العالم الرهيب, تتساءل: لماذا الرائب في كبيك رائحته ومذاقه مثل رائب عمتي؟. ما معنى هذه الوحدة الكونية؟. الوحدة موجودة في المكان. لا نكتشف شيئا. يجب أن نبحث عن أشياء كثيرة توحدنا. الوحدة التي نطلبها موجودة وصارخة في كل مكان, الماء بالقرية الجميلة, الماء بكبيك , الرائب بأسواق كبيك, الرائب بسكن عمتي.

ما أجمل أن تلتقي الطفولة بالشباب, وأن تعرف منى أن الرائب المرطب تستعمله عمتها والكلاغانس المرطب في أسواق كيبك اشترته اليوم. كأس رائب ينفلت من بين يدها تكشف عن ساقيها وتسقيهما بالرائب مثل عمتها.

منى لا تملك ذاتها, هويتها متشردة متفككة متشظية. تسعى إلى امتلاك ذاتها وهويتها رغم التشرد و التشظي. تسافر إلى بلد بعيد, تقيم ما بين الرستاق و كيبك, تشعر بالحب وتكتب في السياسة. الوطن مشروع كتابة. منى تشد بكتاب حملته معها إلى كيبك, تقرأ صفحة 132:’…لا تنتمي إلى هذه القارة الضخمة. أين الوطن؟ إذن ما الوطن, حيث تحظى بالحرية والأمن, حيث تحترم وتصان, أين تحظى بذلك؟. يظل الوطن حلما. يظل الوطن جرحا ينزف…’ منى تخط ملاحظات على ورقة:’الوطن هو مشروع كتابة مجنونة. كشفت عن ساقيها وبدأت تمسح الرائب عليهما. تضطرب في مكانها. لا يجب أن تخفي عريها. صاحبها يوصي بذلك. منى تصر أمامه أنها مكسوة وسط العالم لن يصيبها أي مكروه تخصف الأوراق تكسو جسدها يتعطر. تطمئن .’

منى لا تعرف الحب لا تعرف السياسة, ولا تسكنها أحلام يقظة مثل إيما بطلة مدام بوفاري. إنها مترعة بخصب الإنسانية في كل بقع الدنيا تكتب, لا وطن لها. تتشتت عوالمها , تسمع صوتا :

إوا شدي الأرض.

تشد الأرض. تصمت, تعلم أن صوت جدتها تبخر منذ رفعت أم منى قميصها المذيل وأمسكته في حزام خصرها لتدخل إلى المطبخ. كشفت عن ساقيها وبدا سروال كولف منحصرا عند الركيتين.

السيدة كنزة تنسج قطعة صوف منتعشة هادئة. يشتغلن النساء في صمت. يبحثن عن الحب, والسياسة.

منى يعجبها أن تعبر كل بقاع العالم لتتأكد من أنه قرية صغيرة. تعبر ما بين لهيب الرستاق وزمهرير موريال. يسكنها الفناء والموت المحتوم, موت السيدة فضول, موت زهور, موت كنزة. موت والدتها أشد من زمهرير كيبك ولهيب الرستاق. تعبر الطريق المفضي ما بين فلج الشراة إلى كلية التربية مرورا بالمستشفى, تشتد عليها الحرارة و تضع واقية الشمس فوق الحجاب, تعبر العراء, الأرض قاحلة, حجر, لكن هنا في كيبك الأرض مخضرة, عشب. يدخل أسد يقول لها:

ماما ماما الجو رائق منعش في هذه الشهور فقط, الشمس دافئة. ماما باقي شهور السنة نعبر النفق, ونظل في الغرف أكثر من شهر لا نخرج. نعبر النفق لنصل إلى جامعة لافال, ونتسوق من المراكز التجارية. ماما مرة خرج زميلي حاتم بعد أن ضاق بعبور الممرات الأرضية, وعاد بعد لحظات يحمل أذنيه من شدة الصقيع. حملناه على عجل إلى المستشفى ليخيطها, فوجدنا آخرين يحملون آذانهم.

منى تبتسم.

أسد:

ماما هذه حقيقة الطبيعة الجغرافية لبلد كندا, البرد صعب والماء كثير.

الشاب المنفي, الذي سمي بعد الاستقلال بالزعيم كغيره من الزعماء , تعلم بعد الاستقلال أن العدوان والتجويع والإلغاء, صفات لا تخص الفرنسيين المستعمرين وحدهم, لكنه لم يستطع أن يجهر بذلك. صار كالذي مضى في طريق مسبعه فلم يرد أن يعود إلى الصواب, وأصر على المغامرة وإدعاء صواب الاختيار. يحكي عن الضباط الفرنسيين الذين استقبلوه في منفاه بجنوب المغرب, فتبرز في حكايته بقايا الإنسانية والعطف في سلوك الضباط تجاهه.

يلاحظ أن هذا الوطني المعروف لقي في منفاه من الاعتناء ما شجعه على الإصرار على مواقفه وتحمل الاغتراب في تلك الأصقاع الجنوبية قبل مجيئه إلى القرية الجميلة, لكن يمكن للبعض أن يقول أنه ليس اعتناء وأنه قهر وسجن وإسطبل ينام فيه , واحتقار واعتداء على الحرية. لكن بالمقارنة تقاس الأوضاع, فلو سقط في أيدي آخرين, ممن يستوردون خبراء في علم التعذيب, لاستحب أن يتراجع عن موقفه حماية لشرفه وكرامته وروحه, لكنه لم يعان من التعذيب إلا النزر القليل, ولو حصل له ذلك لاختفى مرة واحدة كما يختفي العديد من الطلبة ممن لا يحملون لقب زعيم.

الشاب المنفي كان يتجول في سوق القرية, دون خوف صباح يوم الاثنين. يتعرف على من يلقاهم من شرفاء أهلها الدين عرفوا انتفاضات سرية ضد المستعمر. كان بعض أهل هذه القرية يحترمون الفرنسيين المقيمين فيها لما كانوا يتمتعون فيه من جوانب إنسانية تجعل بعض سكانها يختلط عليهم الأمر, هل هؤلاء هم المستعمرون؟.

الزعيم يتجول مع صاحبه في أزقة فاس.

فرنسا تستولي على عقول المغاربة, فالشيوخ راضون بالحال, لا يثيرهم الوجود الفرنسي المنتشر. لعلهم يئسوا من كل تحرير. إنهم يقارنون حالهم الآن بما كانت عليه حالهم قبل الاستعمار. ألا تذكر أحاديثهم على السيبة وقطع الرؤوس؟.

يؤكد الزعيم لصاحبه أن الخوف كان منتشرا قبل الحماية. يبتعدان عن المسجد الذي صليا فيه, يمران على الخرازين. حمدة يتعثر في مشيته, يمر بجوارهما, لا يعرفه, الأحياء قد تفرق بينهما, حمدة بحي الرميلة والزعيم بحي صالاج. يصلان إلى باب قصبة النوار القريبة من باب بوجلود وباب الطالعة الكبيرة. ينظر زعيم المستقبل إلى جماعة من المشاهدين المحلقين على رجل في يده أفعى يتلاعب بظهرها. يصيح في وجه صاحبه الذي ذهب فكره بعيدا في تأملات غامضة. يقول :

لو انضم إلينا كل هؤلاء لصارت حركاتنا قوية, تقض مضاجع المستعمرين.

يتراجع إلى الوراء قليلا, يقول لصاحبه:

لكن حركاتنا قوية, أو ليست العبرة بالكيف لا بالكم.

يعبران نفس الطريق, يلتقيان مرة أخرى بحمدة. مر الزعيم أمامه وكأنه كم مهمل. حمدة لا يهتم بالحب والسياسة , كان الزعيم متطاوسا, لا يسعه هندامه الأوربي زهوا. كان سمينا, حركته أقرب إلى الخيلاء منها إلى حركة الثخانة.

لم يكن مضى على الاستقلال زمن طويل, لكنه لم يكن طائرا قادرا على اقتطاف الثمار في أعالي الأشجار. كان أشبه ما يكون بالطيور الدجنة التي لا تطير, وإن طارت لم ترتفع بعيدا عن الأرض, لتعود إليها في لحظات مسرعة. الزعيم كان يعلل خسارته بالنظافة والطهارة الوطنية, ولذلك كان يرى فيها مبعث زهو وافتخار سري تجري أنهاره بينه وبين نفسه, وهذا هو السبب الذي جعل الناس يلاحظون أنه ازداد عظمة في الظاهر عن حاله قبل الاستقلال. لقد أضاف زعيمنا إلى كناش خياله اعتقاده أنه هو الذي طرد فرنسا من بلاده, وأنه مترفع على الولوغ في الأوساخ التي انجر إليها غيره بعد الاستقلال. ذلك الاعتقاد كان وراء اصطباغ زهوه بغشاء رقيق من الزهد ونكران الذات, لكنه زهو سرعان ما ينبثق من بين مسام الغشاء, حين كان يخرج إلى طريق من طرق فاس القديمة ليتجول بين الناس. كان زهوه يبدو في عجرفة خفية كالطلاء المستولي على عينيه ورقبته, في زيه الأوربي عندما يلتفت يمينا وشمالا ليحيي بعض أتباعه, أما بقية المارة لا يلتفت إليهم وربما حياهم على مضض.

كان حمدة هو أيضا يعبر نفس الأزقة, من طريق النخالين, لكن لم يكن له في الوطنية لا ناقة ولا جمل ولا حمار. شاهد المغرب قبل دخول فرنسا, وعبر زمن الحضور الفرنسي, ثم شاهد عهد الاستقلال. كان ذلك كله في نظره مراحل متتابعة, لم يكن متحيزا لأحد, أقصى ما كان يطلبه من الحياة أن لا يظلم هو ولا أحد من أهله, فإذا ضمن ذلك فلا فرق عنده بين الأشقر والأسمر, وبين المغربي والفرنسي. ذلك لأنه لم يكن قد شاهد قبل دخول فرنسا عدلا وغنى, بل كان يرى الظلم والفقر. كان يرى أهل فاس كالقاصرين الذين لا يطلب رأيهم, ولا حق لهم في شأن من شؤونهم العامة, ولا في الكلام الحر المجرد عن الخوف وسوء العاقبة. فلما حلت فرنسا في البلد أبى أن يرى فيها شرا أعظم من الشر الذي عرفه من قبل. لم يكن عارفا بسير الزعماء, ولا بأخبار الحركة الوطنية. لم يكن مؤيدا لفرنسا ولا للزعماء, ولذلك لم تعلق بذاكرته صور للزعماء. مر الزعيم بجنبه ككم مهمل, لا علم له بشكله, لذلك فخطواته قاطعت خطوات الزعيم المتطاول في طريق النخالين كحالته مع كل ماض وآت. لم يحرك فيه ساكنا, لم يمثل له فخرا ولا عظمة, ولم ير فيه سوى جسم ضخم امتلأ شحما.

يكتب لنا الزعيم بعد سنوات, فنقرأ و نسر و نفرح. لا علم لنا بتاريخ مزور يكتبه الغلبة؟. هم مقاولي الحركة الوطنية؟ ما أجمل أن نعرف الزعماء ونحن صغار في المدرسة. نحفظ التاريخ, فتدمغ في ذاكرتنا أسماء بعينها و تنمحي شخوص بشرية اختفت مرة واحدة. يكتب الزعيم عن حركته ويصورها كما لو كانت تملأ أسماع الناس. الجماهير الشعبية تردد كلمات في كتابه, تقر السياسة وتنفي الحب, بينما الحب والسياسة متكاملان متجاوران. يكتبون التاريخ فخرا لزعماء صنعوا أنفسهم ولم يصنعهم الجماهير.

الكلمات تتردد في مذكراته كأن المغاربة كانوا فيما بينهم سمنا على عسل. يختفي العملاء, يختفي حمدة الذي لا ناقة له ولا جمل ولا حمار, وكأن كل أهل فاس وأهل القرية عارفون بحركاته, منذ رحيله إلى باريس لدراسة البوليتيك, حيث أصبح متضلعا في علم السياسة وعمره لا يناهز الثلاثين, إلى أن عاد زعيما في لحظة. سأله مؤرخ بارز في علم السياسة والحب:

هذا أمر مشكوك فيه؟.

فظهر على وجهه آيات الاستكبار وقال:

كنا شبانا ولكن حركتنا كانت تنتشر كالنار في الهشيم…

أحس المؤرخ بأن الزعيم يرى أنه ولد زعيما مثلما يولد الملوك والرؤساء. تصيبه الدهشة, كيف أمكنه في الثلث الثالث من القرن المنصرم أن يستولي على أدمغة المغاربة المساكين؟. كيف استطاع أن يلغي الكهول والشيوخ والأعيان والشرفاء الذين سكنوا فاس أول القرن ؟. ما كان من المؤرخ إلا أن كتب كتابه مناقضا لما زعم الزعيم من تربعه على عرش الزعامة, فدحض زعامته. كتب المؤرخ في بداية هذا القرن قال:

إن الزعيم ينظر إلى الماضي في الثلث الأول من القرن المنصرم, ينظر إليه من موقعه الجديد. لقد أصبح زعيما من وجهة نظره, وأصبح نصف زعيم عند العامة وملغى عند آخرين مثل حمدة. كثير من الخيال والغطرسة والتفوق يستولي على قلم الزعيم عندما يكتب مذكراته. الأحداث غالبها كذب, صنعها من الخيال. مثلا يوهم القارئ في حكايته أن اجتماع فلان وفلان في عدد لا يجاوز سبعة أفراد ببيته حدث مهم وتاريخي, وأن له أثرا بليغا في مجريات الأحداث بعد ذلك, وأن كل الأحداث المعاصرة له كانت منضوية تحت لوائه, و…. هل يظن أن مثل هذه الحوادث الشخصية تغير التاريخ؟. ألا يرى أن المحايد, من بعض الرجال المعاصرين له, لا يعير مثل هذه الأحداث اهتماما, ولا يدعون زعامة مثل حمدة.

ينتفض الزعيم من قبره وينهر المؤرخ ملوحا بعصاه, يقول له:

أنا زعيم على رغم أنف أمك وأبيك. الجرائد والأخبار تعترف لي بذلك, بل إن المؤرخين أنفسهم يعترفون بزعامتي, أما قرأت ما كتبه المؤرخ كذبان؟.

يرد المؤرخ في عجلة:

إن هذا المؤرخ ليس مؤرخا على الحقيقة, إنما هو مستفيد منك يؤدي ثمن استفادته. إن من كتب عنك هو فريسة من فرائس كتاباتك الوهمية المتطاولة على الزعامة. إنك لا تستطيع أن تبرهن على الأهمية التاريخية للحوادث الشخصية التي تتعرض لها؟. قد نعترف بأن سجنك حدث تاريخي, لكن لا نستطيع أن نصدقك في تأويلاتك, كادعائك أنك كنت خطرا على الاستعمار, أو أن الناس ما تململوا إلا بأمرك, أو أن الصيرورة التاريخية كانت رهنا بدخولك و خروجك من مراكز الحزب أو من دارك.

منى تتدخل في غضب أنيق:

أين اختفت السيدة كنزة في كتاباتك؟

الزعيم لا يعير كلامها اهتماما. يدخل مكتبه, ينتهي من كتابة مذكراته ويفسر التاريخ من خلال ما بدا له نقيا. يكتب خوفا من أن يداهمه الموت, يكتب… تختفي كنزة.

منى لا تفقه علم السياسة, و لا تعرف الزعيم, لا تحب الزعماء. المضحك في كنانيش حوادث الوفيات هو أن الروح الخرافية تمتد من الجهة المستفيدة منها إلى قلم المؤرخ, فترد على قلمه حقائق مخترعة عن زعامات تاريخية. يجب أن نعلن عن تزوير التاريخ وأن نصرح بكراهيتنا للطغاة والكاذبين من الزعماء. كلنا زعماء. منى تكره السياسة.

مؤرخ آخر يكتب عن الجملوكية . الجملوكية ظهرت منذ نهاية القرن العشرين … ” منى لا تهمها الجملوكية, هذه مناصب يتسابق عليها الرجال ويستثمر فيها الجملوكي داء السلطة وجنون العظمة. أين اختفت كنزة؟ لم يذكرها التاريخ. هي حقيقة تنسج قطعة صوف, ترغب في حملها إلى الزعيم الذي نسي أن يذكر اسمها في مذكراته.

اللغوي يتطاول على التاريخ, يحاجج منى ويناقش المؤرخ كذبان. يدخل في حوار طويل معهما:

اللغويات والسياسة… بعض الجهات لا تميز بين لفظ الحركة الوطنية والأحزاب الأولى للحركة الوطنية, ولا تميز كذلك بين الأحزاب غير الوطنية والأحزاب الجديدة في الحركة الوطنية, والجمعيات النسائية.

منى هي الأخرى لا تميز بين الحركات والجمعيات, لم تزامن هذه الحقبة التاريخية . ليست فقيهة في علم السياسة. عندما أصبحت عضوا في جمعية نسائية يسارية كانت تلوذ للصمت, السياسة تخيفها. يقول لها صاحبها :

لا بد من الفصل بين تلك التركيبات والجمل إن شئنا إقامة صفاء لغوي في الحوار السياسي المغربي. هل يساوي معنويا لفظ الحركة الوطنية لفظ الأحزاب الأولى للحركة الوطنية؟ الجواب هو لا ونعم. يتساوى اللفظان إذا نظر إلى الحركة الوطنية باعتبارها كيانا ميتافيزيقيا جامدا, في هذه الحالة تكون الحركة الوطنية شيئا وهميا متصورا يتوارث, وتكون أحزاب الحركة الوطنية أحزابا ذات كيان أنطولوجي لا تاريخي.

يطرح على منى بعض الأسئلة وهو متأكد من جهلها التام بالسياسة وبالحركة الوطنية:

هل الحركة الوطنية كيان ميتافيزيقي؟. هل الأحزاب كائنات مكتملة في الزمن والمكان ومتنقلة بكيانها الثابتة بين العصور؟. إذا كان الجواب منساب دون تفقه في علم السياسة, فلا تعادل بين اللفظين ولاحق لأحد في استعمال الحركة الوطنية والأحزاب الأولى للحركة الوطنية بمعنى واحد. إذا كان ذلك صحيحا فلا معنى أيضا للخلط بين لفظ الأحزاب غير الوطنية الجديدة في الحركة الوطنية. نلاحظ أن الأحزاب الجديدة في الحركة الوطنية لا تغدو مصطنعة في إدراك الغافل عن هذه الفوارق إلا حين يؤمن بميتافيزيقية ولا تاريخية الحزب والحركة الوطنية. حين يؤمن بذلك ينقلب إلى نائب عامي طاردا أبناء الشعب ومن ضمنهم الطفلة التي تلفت في ساحة الهديم, وكنزة التي نسجت الصوف, و الطاهر الذي خرج من الزنزالة بمخالب تشبه مخالب الأسد. والطالبات العاريات في الفاركونيت من ظهر المهراز .

منى تجادله:

الدوشات في الحي الجامعي بظهر المهراز تؤرخ ثورة نسائية صامتة , الأبواب كسرت مازالت رقع الخشب شاهدة على الحدث .

يقول لها وهو بعيد عن تدكراتها لظهر المهراز :

المؤرخ يمارس الاعتداء على التاريخ, لأنه ملتزم بالموقف الميتافيزيقي الجامد. ينسى أن الحزب والحركة الوطنية من صنع بعض الناس, ويتلذذ باعتقاد العكس. تراه يعتقد أن الناس جميعا نتاج الحزب والحركة الميتافيزيقية وأن كل من يمارس تأسيسا جديدا لحزب جديد يتمثل فيه نهر من أنهر الحركة الوطنية التاريخية, إنه يرتكب جرما مشهورا. هل تستطيعين أن تضيفي إلى لائحة حقوق الإنسان صياغة صريحة تثبت حق الإنسان في تأسيس أحزاب جديدة, بل تأسيس حركات وطنية دون التعرض لإدانة أنصار المواقف الماهوية؟. حينما نقول سنة 1990 أن الحزب الفلاني هو الحزب المؤسس للحركة الوطنية, لا ندقق بذكر تاريخ إحداث هذه الحركة ولا بذكر تاريخ نطقنا بذلك الحكم, نفعل كما لو كان هذا الحزب شخصا مستمرا في الزمن وكما لو كانت الحركة الوطنية سلعة مؤسسة منتهية. ما سبب هذا الانحراف اللغوي؟. سببه أننا لا نفرق بين الألفاظ الدالة على القصص والألفاظ الدالة على الأشخاص. لاحظي معي أن الشخص نفسه هو قصة, لكن قصة مكينة ممثلة في الكائن الذي تشخص وتميز وأصبح في الأخير زعيما متغطرسا. إن الزعامة قصة يصنعها الزعيم ويشاركه الآخرون في صناعة زعامته, ولهذا لا يصح القول بوجود زعامة أو حركة وطنية إلا إذا كشفنا بعد مماته الجينات التي جعلت منه زعيما دون غيره.

بعد سنوات تغيرت الظروف, وخرجت فرنسا من البلاد وتطورت الصناعة.هذا ما كان يفكر فيه عبده, ويؤمن بحدوثه . ويردده في نفسه. كان يتعجب وهو يستمع إلى الأخبار التي كانت تصله عن زعيم المستقبل.

صار هذا الزعيم رجلا معروفا, وغدا صوتا مسموعا, وعرضت عليه – فيما زعموا – مناصب الوزارة احتفاء بزعامته. كانت تلك الأخبار إشادة بنضاله الذي أقض مضاجع المستعمرين واضطرهم إلى الرحيل, لكن ما تحكي كنزة ظل موروثا ثقافيا يتناسى مع نسيان الأموات وتبخر في الهواء. هي لا تعرف أن تدمغ حروفا على الأوراق, ولا يشهد لها المؤرخون بتسجيل اسمها في انطولوجيا أعلام الحركة الوطنية. تنسج الصوف لتدفئ الزعيم, تصمت, لا تتكلم.

كان عبده, في النصف الأول من القرن المنصرم, يرى بين التواريخ فوارق شاسعة, الخيال مشحون بالكذب. هو الآخر مثل النساء لا يعرف صناعة التاريخ. عبده كان يردد تأملاته في نفسه وهو متعب بثقل السنين. كان لا يتخلص من الضيق إلا بالرجوع إلى ذاكرته, متطلعا إلى مكان هو وأخوه محمد يستقبلان فيه الزعيم بين صراخ الباعة ونهيق الحمير في سوق القرية الجميلة صباح كل يوم الاثنين.

بعد الاستقلال يلتقيان في قبة البرلمان, لا يتحدثان, يعرض زعيمنا بظهره كبرا في أنفة وأناقة مبالغ فيها. صيف 1963 الزعيم أصبح شيخا متألقا, وعبده في أوج شبابه زاهيا, كل منهما يركن في كرسيه فخرا. ينام بعضهم وآخرون يرفعون أيديهم ويصوتون ب ‘نعم’. لا يفقهون في علم السياسة.

والد منى محمد يحكي لها عن التعليم في قريته:

التعليم الفرنسي خطط له منذ بداية سنة 1923 لينشئ جيلا مؤهلا لتسلم مناصب إدارية باللغة الفرنسية في ظل الأعراف التقليدية. استبعد من هذا التعليم تلقين العربية والدين الإسلامي, وركز فيه على اللغة الفرنسية والتوجهات السياسية. كتب عن هذا التعليم المقيم الفرنسي ‘اليوطي’ نفسه في نشرة وجهها إلى رؤساء النواحي الفرنسية. قال: “إن الهدف من إنشاء المدارس الفرنسية هو تطويع العنصر الأهلي الأمازيغي والاحتفاظ له بكيفية سرية … لكن مؤكدة بالفوارق اللغوية والدينية والمجتمعية التي توجد بين بلاد المخزن المتميزة بإسلامها وعروبتها, وبين الجبال الأطلسية التي لا تعرف العربية”.

يحكي والد منى عن حاله عندما كان صبيا بالقرية يترد على ليكول وفي نفس الوقت على المسجد. كانت أسرته الشريفة, الشديدة التدين, تمانع تعليمه الفرنسية في ليكول, ولحسن حظه أو لسوئه, أن أسرته ميسورة قادرة على دفع الجزية للمقيم الفرنسي بالقرية حتى لا يلتحق صبيها بليكول ويلتحق بالمسجد. لكن محمد كان يخرق الاتفاق ويصحب بقية الصبية الفقراء إلى ليكول. يعجبه الحديث باللغة الفرنسية, لكن يشعر بشيء في أعماقه يشله من بين زملائه ليحفظ القرآن الكريم ويخط حروفا عربية.

يقول لابنته منى:

كنت أصاب بقلق شديد لأنني أحببتهما معا. لم يكن لي ضرر في تعلم الحروف العربية والحروف اللاتينية, لكن كنت ألقى زجرا وتعنيفا عندما يصل خبر دخولي إلى ليكول لأسرتي. يختلط علي الأمر وأخاف.

عم منى يحدثها عن شرفاء القرية الجميلة, يقول لها يوما:

هذه القرية هي منفى أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم. نزحوا إليها ليحتموا بغاباتها وجبالها, وهم قوم قلة. دفنوا فيها, و قبورهم بطحاء يكسوها التراب, لا توجد لهم قبة ولا زاوية. جاء إلى هذه القرية أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم. فاطمة الزهراء قالت: “الأمازيغيون خير من يعطف على أبنائي ويكرم مثواهم.”

منى تذكر أحاديث عمها عبده :

لم يكن الخليفة الأموي يدعي أن ملكه يقوم على أساس الدين, ولا يعتبر نفسه حارسا للدين. كان الدين يتمتع باستقلال شبه تام عن الدولة. القضاة كانوا مستقلين في قضائهم, والعلماء بالكتاب والسنة يؤولون ما استعصى حله, إلا من كان منهم في خدمة الأمويين متحيزا لهم. كان كل إمام وكل قاض يجتهد ويفتي في اجتهاده, ولم يكن للخليفة أو عماله أي سلطة علمية, إلى أن قامت الدولة العباسية, وكلف أبو جعفر المنصور فيما يبدوا الكاتب المعروف ابن المقفع بوضع تقرير يقترح فيه ما يراه ضروريا لتوطيد أركان الدولة, فكتب رسالته الشهيرة ‘رسالة الصحابة’. هذه الرسالة كتاب صغير الحجم عظيم الفائدة نصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه وحسن سياسة الرعية. كان في نصحه رقيقا غاية الرقة, وكان ينتظر من المنصور تقديرا أدبيا وماديا يليق بجهده, ولعله لم يتصور أن مجرد إسداء النصح للمنصور يعتبر جريمة يستحق عليها قطع أصابع يده وشيها على النار أمام عينيه, و إ طعامه إياها مجبرا…

منى تردد في نفسها :

– خي فيه.

لقد عرف أبن المقفع بكراهيته للمرأة واحتقاره للنساء, في قوله: “أنهن لا يتجاوزن الاعتناء بجمالهن. ولا تملك أي امرأة من الأمر ما يجاوز نفسها, فإن ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها و أدوم لجمالها, وإنما المرأة ريحانة وليست قهرمانة…”

منى تردد في نفسها:

حقا لست قهرمانة ولا سلطانة ولكني إنسان.

منى تداوم على تذكر أحاديث عمها عن التاريخ, يقول لها:

كسرى انوشروان تولى الملك في ظروف كانت فيها الدولة الساسانية تعاني من الضعف والانحلال, و خصوصا بعد أن تحالف والده قباد, الذي تولى الملك سنة 488 ميلادية, مع أتباع المزدكية ضدا على الأرستقراطية الفارسية التي كان يشك في ولائها وإخلاصها. كان رجل دين من أتباع الزرادشتية وقد مال إلى جانب الفقراء والمستضعفين ضدا على ملاك الأراضي والنبلاء وطبقة خاصة من المترفين. وكان يرى أن أصل الداء في المجتمع وأصل الاستقلال والحروب, هو الجري وراء الثروة من جهة والتعصب للنسب والحسب من جهة أخرى. لذلك دعا إلى الشراكة في الماء والنساء, وذلك بجعلهما من الأمور المشاعة بين الناس.

يدخل أسد ويشل خيط استحضار تذكرها, يقول لها:

ماما, ماما الماء ملك مشاع. ماما ثلث الاحتياط العالمي من الماء يوجد بكندا. ماما, الماء لا تدفع له فاتورة, الماء مجانا, كندا مخضرة رائعة. ماما اعرف أن العشب الأخضر يعجبك, يذكرك بقريتك الجميلة, لكن هنا لا يوجد شجر الأرز. ماما تعلمين أن إليزابيث ليست ملكة على بريطانيا فحسب ولكن على كندا أيضا. تعلمين أن النساء في كندا يتمتعن بحقوق كثيرة ولا يشعرن بالخوف.

أسد يسترسل في الحديث عن كندا, منى تنجرف وراء هلوستها. لو كتبت ابنتها رهام, الشاعرة المغتربة, بكندا قصيدة للملكة مثل ما فعل الشدياق الذي مدح فيكتوريا بقصيدة وقدمها لضابط البلد,- و الضابط وكلها لزوجته لتهديها إلى بعض الخواتين القائمات بخدمتها, وترجمها أيضا إلى لغتهم- لو كتبت رهام قصيدة لرفع الحصار على بغداد وصديقتها العراقية المغتربة دنيا جات.

يشتد قلق منى, وتخرج لتعبر العشب الأخضر . عندما تزور كندا تعرف الحب والسياسة. يشتد قلقها, تعرف أن بلدها يعرف الجفاف. تدخل إلى سكن ولدها أسد بالحي الجامعي لافال, الألم يعصر جسدها, الجفاف ببلدها. تقترب من الموت.

عرفت منى الموت يوم انتزع منها والدها, تذكر كم حضنته بجوارها, وقبلت يديه, و دعكت ظهره ورجليه بلطف وحنان. كان يحكي لها وهو في نهاية شيخوخته الناضجة عن تفاهة الحياة. احترق قلبها لما علمت بخبر موته وهي بمصطاف المضيق. مرة أخرى يعود الموت, لم يحترق قلبها بل انتزع من مكانه, ماتت أمها . توفيت في غفلة, اختفت وهي في أشد قوتها وبهاء جمالها. كانت في بداية الشيخوخة أنيقة وجميلة, لم تخر قواها بعد. انتزع من منى قلبها وشعرت بلهيب بداخل صدرها. استمر اللهيب أكثر من شهر, فذهبت للطبيب صحبة ابنتها آية. فوجئت بعد الفحوص بالأشعة أن لا شيء يحترق بصدرها, النار وهم وخداع. منى تشعر بالنار تلتهم صدرها تحترق. يقول لها الطبيب:

يجب أن ترحلي إلى بلد بعيد.

منى اليوم عند ولدها بكندا. الماء, تعبر العشب الأخضر بكبيك العاصمة وتكتشف تفاهة الحياة, تكتشف أنها لا تستطيع قراءة التاريخ المزور. الحقيقة يفصح عنها ‘الدم’ المنساب على الأرض. كتابة التاريخ يجب أن لا تحدد بأسوار السلاطين ولا بأهرام الفراعنة. التاريخ شبيه بالرقص والموت والدم والحريق و الماء… وأشياء أخرى لا نعرفها مثل الرقص و كرة القدم, نرغب في مشاهدتهما. منى لم تشاهد الرقص ولا كرة القدم في تجلياتهما الكبرى, الذي شاهدته حقيقة هو الموت لأن حريقا شب في قلبها واستمر اللهيب أكثر من شهر. المكاشفة للموت هي أعلى درجات الحب والسياسة. منى معجبة بأمها لأنها كانت فاتنة أنيقة تغني أغاني اسمهان: ‘هل تيم ألبان فؤاد الحمام.’ ما أصعب أن يوارى الجسد التراب, فأمها قطعة منها. يغرق الجسد في التراب, فيشتد اللهيب بصدرها, لقد حصلت المكاشفة. مكاشفة الموت عندما انتزعت منها قطعة من جسدها, تختفي الأم, يختفي الماء, ويشتد الحريق. تدخل وسط التراب, وتدخل منى وسط الستائر رفقة أخيها و تشتد الغواية, غواية اللعب, تتم المكاشفة وتكتشف الموت في غور لظلام. الموت والحياة حقيقة. تلتقي في ود وحنان عارم وسط الستائر, يشد ها أخوها, لا تسقط الستائر الثلاث. تعرف الحب تعرف السياسة.

أي حكاية تحكي منى؟. علمها صاحبها نزع السحر عن العالم. كشف لها ذلك في ظلم وخير معاشرته, وعتم وإشراق حواره. علمها مواجهة الظلم والعتمة, وخرق المحرمات و… لكنه لم يعلمها نزع السحر عن الحب والسياسة؟.

منى خائفة, تحكي عن ركام الماضي المبعثر, تحكي عن بقايا تاريخ مزور, تحكي أن الأرض قطعة واحدة مركزها إفريقيا. القارات الخمس كذب, فالأرض قطعة واحدة حصل فيها تغيير منذ قدم التاريخ. تغيرت الأرض وأصبحت خمس قطع خلقت حدودا. خمس قطع محددة بالدم الذي تسرب على التراب الطاهر إثر حروب عجاف. الأحمر الذي تسرب على الأرض يحكي التاريخ. منى تحكي التاريخ الحقيقي الذي أصبح نسيا منسيا. ينسكب الدم قطرات من الشمعدان, تسمع قطرات الدم بنت السلطان, تتكلم؟. منى تتساءل: لماذا تكلمت بنت السلطان عندما سقط الدم؟.

توفيت كنزة, وتبخر التاريخ, لا تاريخ لها. توفيت صباح يوم الخميس في شهر شعبان بمدينة سلا. منى تشهد التهيؤ الأخير لمراسيم الرحيل. تنقل كنزة إلى القرية الجميلة للدفن , يتم تشييع جنازتها في الدار الكبيرة, وقد شيع قبلها أخوها عبده, نقل هو الآخر من فاس إلى القرية الجميلة, ليدفن بجوار رميم أحفاد سيدتنا فاطمة الزهراء. والد منى توفي بمدينة الرباط يوم الخميس في شهر شعبان. والد منى يمتلك العالم, يعرف أن الأرض قطعة واحدة, يوصي قبل مماته أن يدفن بأي بقعة أرض وجد فيها, لا فرق عنده بين مدينة وقرية, يعتبر التشبث ببقعة معينة خرافة ووهم. يملك كوكب الأرض, يحب الأرض, ويعرف يقينا أن لا حدود جغرافية تفصل بين البقع. دفن بجوار الشاعر الكبير الذي كتب له أبو أسد الشاهد على قبره. منى تداوم على قراءة شعره, ‘اختفى مرة واحدة’. رافقهما يوما إلى القرية الجميلة لحضور عرس أبناء عمها, ثم أسرعوا بالعودة عندما جاء منى المخاض وعادوا إلى فاس. عبروا الطريق الممنوع لكن ألسنة الحديد كانت تحول دون العبور. جاءها المخاض والوجع اشتد, تصرخ. يوقف عبورهم الشرطة, يلعن الشاعر الشرطة وتبيض عينا أبو أسد من الخوف.لا يقوى على مواجهة تحقير الشرطي للأستاذ. ألسنة الحديد تمنع العبور. منى جاءها المخاض, تشد بساعد صاحبها و تعضه من شدة الألم, الشرطي لا يرحم. الشاعر المعتد بتحزبه يحرض أبو أسد على العبور ويشتم الشرطة والحكومة. يصلان إلى باب مصحة الولادة, تسقط آية قبل الدخول إلى غرفة الولادة. منى ترغب في أن تسميها مي. يخبرها صاحبها أن صديقه اعتقل لتمرده على رجال الأمن. يدخل عمها عبد يخبره أبو أسد باعتقال زميله الشاعر, فيقول مازحا:

سأعرض الحدث في قبة البرلمان.

يخرج عبده وبيده ديوان شعر, يفكر في رواية الحدث للزعيم عندما يلتقي معه في قبة البرلمان, لكن الحدث أصبح نسيا منسيا. يعم البلد خوف رهيب فالكلام ممنوع في السياسة.

ينتشر خبر ولي صالح دون كرامات. لا يخترق الجدار ولكنه يخترق اليأس, يأس الجائعين والعاطلين والطلبة العزل. يخرجون للشوارع, ينتظرون برنامجا يحول الأرض إلى فردوس وتنتهي سنوات الجمر. آخرون يتبركون بالقبة, ويقبلون الحجر كأنهم يحرزون على شهادة البراءة من المخالفات النفسية والجسدية. شعورهم بالذنب ومخالفات قواعد الحشمة والحياء يجعلهم يتشبثون بالحجر. يبكون ويشهقون فيتسرب الدمع إلى روافد تصل إلى نهري دجلة والفرات. يشتد التضرع في القمم العربية ويخرجون للشوارع متضررين, يترجون تغيير الأحوال.