الأدب النرويجي وقضية فلسطين .
March 17, 2009
March 17, 2009
الأدب النرويجي وقضية فلسطين . محاضرة . كلية الآداب جامعة محمد الخامس . مدرج عزيز الحبابي . بحضور الكاتب العام الأول لسفارة مملكة النرويج . 05_ 01_ 2009 .
June 4, 2008
Le professeur Marocain, Latifa Halim, a tenu deux conférences sur la littérature à Oslo.
05/10/2007 ::
Le professeur Marocain, Latifa Halim, a tenu en septembre deux conférences à l’Université d’Oslo sur « les femmes d’Ibsen d’un point de vue marocain » et « la littérature féminine marocaine ».
Au Centre de recherche pour les femmes et les sexes à l’Université d’Oslo, sous le thème « la littérature féminine marocaine », le professeur Halim a surtout parlé de l’histoire de la littérature féminine marocaine avant et pendant le protectorat français, et après l’Indépendance.
Lors de la conférence « les femmes d’Ibsen d’un point de vue marocain», tenue au Centre d’études d’Ibsen le lendemain, le professeur Halim a analysé la pièce de théâtre d’Ibsen « Une maison de poupée » d’un point de vue marocain.
– « J’étais heureuse d’être dans ce beau pays qu’est la Norvège, là où les femmes ont contribué à l’évolution de la pensée féministe universelle », disait Mme Halim après sa visite à Oslo qui a été réalisée grâce à une collaboration entre l’Université d’Oslo, l’écrivain M. Walid al-Kubaisi, l’Ambassade Royale de Norvège à Rabat et le Ministère des Affaires Étrangères norvégien.
Les conférences ont ét organisées par l’Université d’Oslo avec l’assistance des professeurs Irene Iversen et Gunvor Mejdell, ainsi que M. Walid al-Kubaisi.
Suite à cette collaboration culturelle féconde entre le Maroc et la Norvège, une conférence sur la littérature norvégienne et marocaine est envisagée pour l’année prochaine à l’Université Mohammed V à Rabat.
June 4, 2008
الفصل العاشر
من العبقرية إلى الجنون
بعد أن قرأت لطلبتها قطعا سردية قصيرة وضعت أوراقا على الطاولة والتفتت إليهم قائلة:
–النص الروائي المعاصر تضيع فيه البنية السردية, يتلف شخوصه, يكثر فيه البياض, ولا توجد بداخله علامات الترقيم. تاريخ الرواية وإن ظل مادة أساسية في بعض المحاضرات التي أقرناكم إياها, لأنه ضروري, لكن استنساخه في سياق معاصر غباء منا لأن الرواية بشكلها التقليدي أصيبت بالوهن والضعف والابتذال. قولي هذا لا يعني أنني أتنكر للتاريخ, فهذا كذب لأننا مدينون لكل الحكايات السابقة كألف ليلة وليلة. أريد أن أشير إلى نقطة أساسية هي أن الشيء المهم عندما نتحدث عن الرواية العربية المعاصرة هو أنها ليست تقليدا للحداثة الغربية, مهما بدا من التشابه الظاهر في التقنيات. إن ما نشاهد من التشابه هو نوع من التقارب بين البشرية, التي توغل في أزمنة لا نعرف لها بداية, ولأن الإنسان يظل البطل المؤشر إليه في كل رواية تمرر في هذا العالم الذي مازال مبهما يكتنفه الضباب و العماء. إن هذه الحداثة الواضحة في الرواية العربية المعاصرة هي نتاج أزمنة مخاض. إننا نعيش دائما أزمة رواية غير مكتملة تجهض قبل الأوان. إدا كانت الرواية قد فقدت بكارتها, لعدم الحرص والمراقبة الشديدة على بنيتها التقليدية فمزقت وحدتها الجمالية, فإنها قد اكتملت بالمقابل وأصبحت تمتلك كثيرا من الوعي والتدبر والحكمة, فغدت محكمة البناء. كتابة رواية يحتاج إلى زمن طويل من النضج المعرفي, ولا يحصل هدا النضج المعرفي إلا عندما يرمي الطفل بحجارة فتلمع لمعا شبيها بثغر صبية فاتنة, لكن الحجارة لا تلمع في زمننا هذا.الصبايا لا يبتسمن, ينتظرن الرجال. يكبر أطفال الحجارة وتكبر الصبايا. ينتظرن أن تلمع الحجارة لمعا يشبه لمع ثغر حبيبة عنترة. الصبايا في فلسطين وفي كل العالم ينتظرن ليباركن اللمعان. انتبهوا معي, يجب التجسس على أنوثة الفعل لمعت في القطعة الشعرية ” لمعت كبارقة ثغرك المتبسم” مع الحذر من السقوط في الأنثوية. نصوص كثيرة تخرب ذاكرتنا لكن يجب تطهيرها قبل الكتابة.
تمتد يد الأستاذة فوق الطاولة, تبحث عن رسالة ترغب في قراءتها للطلبة. يسقط القلم على الأرض, ترغب أن يسقط في غور النهر ليتطهر. تقرأ رسالة من باريس إلى اتزر.
– شقيقة نفسي… باريس … لا تخافي… مازلت أحتمي بحرارتك, ما زلت دافئا حتى وأنت بعيدة في قريتك الجميلة المغطاة بالثلج الناصع البياض. الثلج لا يفقدك الحرارة, فحرارتك تصل إلى باريس وأشعر بالدفء. ثلج قرية اتزر غير ثلج باريس, هنا الثلج لا يذوب, يظل جامدا ألمسه فأرتج. أرجو أن لا تخافي فأنا أعيش التجربة, وما استطاعت باريس, لا هي ولا غيرها من كبريات عواصم أوروبا, أن تفرق بيننا. حزامك الأخضر بجواري الآن وأنا أكتب إليك. إنني ألمسه عند الخروج من غرفتي وعند الدخول إليها. سألني عنه كثير من الطلبة , سألوني عن سره و تركتهم يعمهون في كثير من الشكوك.
أظن أن كل رواية حديثة تنطلق من خرق البناء السردي المتفق على بنيته في زمن ما, و أن أي رواية في نظري تتسم بميسم الحداثة يجب أن تراقص الكلمات لحد الجنون, وتغازل الحروف لحد الدهشة, لتستوي في جمالية تطمئن لها النفوس. يحصل ذلك عندما تتحرر من مختلف القيود السردية وتكسر الدائرة الشط حية الصوفية: ‘ حي الله … حي … حي ‘.
تمسك برواية تعود تقرأ قطعة سردية أخرى ‘ شيئا فشيئا تبتعد عن الأرض’ . تقول لهم الأستاذة :
– فريدة ترقص وتؤرخ لبداية حركة الطالبات المغربيات بالجامعة الفرنسية. ترقص رقصة المتصوفة, ‘اهتزازات’ ترتفع عن الأرض وتبغي الوصول إلى النور الرباني. تشطح, تجن و تعرف بعض أسرار العالم. ترتفع ‘ شيئا فشيئا تبتعد عن الأرض’ لكنها لم تعتقل لأنها تقيم في باريس. لمياء ترقص وتؤرخ لبداية حركة الطالبات بالجامعة المغربية. تنام في المقابر خوفا من الشرطة. ترقص على أنغام أمازيغية و تعتقل.
مرتبكة, قلقة تتابع قولها :
– النص الروائي الحديث تباغتك فيه الصور, تفتت فيه الكلمات, و تتناص داخله الرسائل والمسرحيات, حتى المذكرات. لنقرأ رواية مرقونة قيد النشر لسيدة ‘متلن ش’, وهي امرأة هولندية عاشت بالمغرب في القرن الثامن عشر بحاضرة مكناس. انتبهوا عند قراءتكم لمذكراتها , يجب أن تتجسسوا على بعض القطع السردية المضمرة وتكاشفوا الأنوثة في شهوتها, وتقتحمون خلوتها. أصيخوا السمع لتسمعوا نغنغتها, و تتساءلوا عن أشياء خفية استعصى على المرأة الإفرنجية كشفها أثناء الرقص مع أحد أعيان حاضرة مكناس الذي أغرم بجمالها لأنها إفرنجية. فاجأته خلاعتها, عندما كشفت عن ساقيها, وشهرت أنوثتها. رقصت عارية . انحني أمامها إكبارا وتلهفا وقبل يدها . انحلت العقدة من لسانه فقه قولها.
وضعت الأستاذة يدها على سطح الطاولة, فسقط قلم آخر على الأرض. تصفحت أوراقا أخرى, ثم فتحت كتابا وقالت لهم:
– من الأحسن أن أتحدث لكم عن جنس الرسائل الذي يتناص داخل النص الروائي المعطوب. أجد أن المرأة توقع رسائلها بحرفين ‘ ف, ب ‘, أنا لا أهتم بالبحث عن الاسم الشخصي والعائلي فهذه مهمة الشرطي, أنا أهتم بالرقص, ربما تكون الراقصة جنت وتوفيت. سأقرأ الآن الرسالة:
عزيزي المهدي
أعود إلى باريس إذن وأنا مدركة أنها تغيرت عما كانت عليه سنة 1965 عندما وصلتها أول مرة. عشت بكل كياني فورة مايو 1968. أكتب إليك هذا الكلام وقد مرت سنتان على إشراقات مايو 1968 وبدأت الأحلام المتوهجة تخف . زميلاتي ينسجن سيناريو عن تحرير المرأة وقد انغمرن وسط دوامة التبر جز محاولات نقده في الوقت نفسه, مثل ما تفعلون وأنا معكم بالتبشير بمجتمع آخر أنا لا أقرأ كثيرا كما كنت من قبل. أعيش متنقلة بين الوجوه والأجساد وعلب الرقص, أرقص حتى الانتهاك على طريقتي.
تلتفت إلى الطلبة مكتظة :
– أنبهكم مرة أخرى إلى أن الشيء المهم والذي له قيمة في هذه القطعة هو تيمة الرقص, أرقص.
سجلت الكلمتين على السبورة, ثم التفتت, والطبشورة ما زالت بين السبابة والإبهام, مشدودة و قالت في عجلة:
– تيمه الرقص تتوزع في هذا المتن الروائي وليس فقط في هذه القطعة السردية.
سجلت على الفور وفي عجلة أكثر من السابق: ص 15 ترقص, ص 98 ترقص, ص 99 رقصها, ص 99 يرقص, ص 100 ترقص, ص 100 ترقص, ص 100 الرقص, ص 114 ترقص, ص 130 للرقص, ص 133 الرقص, ص 145 رقصاتك, ص 145 رقصات, 145 رقصة, 145 رقصة, 148 سيرقص, ص 148 الرقص, ص 148 يرقصون.
تحمل من فوق الطاولة رواية نسائية تقول لهم:
– انتبهوا معي إلى أن تيمة الرقص, ليست مقتصرة على هذه الرواية فقط بل إنها تتكرر كذلك في قلب الجنس الروائي النسائي منذ بداية القرن العشرين. مثلا رواية بديعة وفؤاد, صفحة 39 الرقص, صفحة 40 الرقص, صفحة 262 رقصا,… رقصي , يرد في هذا البيت الشعري و تقول صاحبة الرواية عفيفة كرم:
لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا فالحمام يرقص مذبوحا من الألم.
في المتن الشعري يتكرر لفظ الرقص, في ديوان الفروسية مثلا: ص 27 يرقصون, ص 33 الرقص, ص 63 أرقص, ص 98 ترقص, ص 101 الرقص, ص 106 يرقص.
وفي بعض الكتب السوسيولوجيا يتناص اللفظ. مثلا : كتاب ‘ السلطانات المنسيات ‘: ص 308 رقص, ص 309 يرقص, 311 الرقص….
أخيرا يجب البحث عن مقال كتبه إدوارد سعيد واهتم فيه بالراقصتين بديعة المصابني وتحية كريوكا. ستستفيدون من المقال كثيرا. أجد أنه كان واضح الرؤية, كتب بأناقة وغواية ماهرة عن تيمة الرقص, وقربنا من الهوامش الثقافية الفنية الأنثوية. كان الغرض عنده هو أن ينتشل النص الحقيقي من براثن الجهل وغياهب النسيان, وأعلن عن تفتحه الجنسي وهو في سن السادسة عشرة. يعتبر إدوارد في هذا المقال مناصرا لحركة المرأة في اهتزازاتها. إن النصوص التي كتبها عن الراقصة ‘ تحية كريوكا’ كان يهدف منها هز العالم العربي ليتفتح ويتفجر ويخرج من العماء عندما يشاهد أجمل امرأة ترقص. العالم العربي يحتاج إلى اهتزازات تحية كريوكا.
الرقص من التيمات الأساسية في المنظومة السوسيو ثقافية عند البشر, منذ أزمنة توغل في القدم. سأل زعيم هندي يدعى هاتوي رعيته:
–هل تعلمون لماذا يريد الإسبانيون أن يقتلوننا؟ لأننا نملك الذهب.
كان بين يدي الزعيم الهندي سلة مملوءة بالذهب, فابتسم وقال لهم:
– هذا ربهم! هيا نرقص له و نوصيه فلعله إذا سمع دعاءنا يأمرهم بأن لا يذبحونا.
ثم رقص الهنود الحمر حتى الإعياء. وبعدها قال هاتوي:
– اسمعوني جيدا, سوف أرمي بهذا الذهب في النهر لأنهم سوف يقتلوننا بسببه.
وكذلك فعل ولما علم الإسبانيون بقصته شنقوه وقتلوا شعبه.
تنقر بسبابتها فوق خشب الطاولة وتذكر:
– بسم الله الرحمن الرحيم.
تقلب صفحات بعض المراجع, مشتهية البحث عن تيمة الرقص. في صمت تقرأ بعض العناوين. الطلبة يوشوشون, تنقر مرة أخرى بسبابتها على الطاولة, فيعود الصمت, وتفتح كتابا, تقرأ:
– ص 18 رقصهم, ص 180 يرقصون, ص… هذين الكلمتين من كتاب ‘رحلة ابن بطوطة’, دار التراث العربي, بيروت, طبعة 1968. يقول ابن بطوطة “…وطلب مني كبيرهم أن آتيه بالحطب ليوقدوه عند رقصهم, وأخذوا في السماع ومن ثم دخلوا في تلك النار فما زالوا يرقصون.” ص 104 يرقص , ص 104.
تقرأ عنوانا آخر:
– ‘التنبيه المعرب’ السفر الأول, تأليف الحسن بن الطيب اليماني الخزرجى المكناسي ثم المراكشي, تقديم وتصحيح محمد لمنوني, الرباط, مطبعة المعارف الجديدة, ط 1, 1994, الباب الرابع, في أخبار الجزائر. السبب في وصولنا لها ما فيها من البهجة والرونق وكل ما تشتهي: “… ورقص يكون للرجال مع النساء, فكل رجل يرقص مع امرأة”. ص 92 الرقص, ص 92 رقصهم.
“تحفة أهل الفتوحات والأذواق في اتخاذ السبحة في الأعناق, وبعض الآداب اللائقة بالمكرمين بصحبة أهل حضرة الإطلاق بفضل الكريم الخلاق….. ويجوز الرقص بدليل فعل الحبشة في المسجد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم ينكر عليهم وكان رقصهم بالوثبات والوجد … “. فتح الله ابن الشيخ سيدي أبي بكر البناني, مصر ( بشارع محمد علي ) , مطبعة التقدم بدون تاريخ.
أذكركم مرة أخرى بأن الشيء المهم والذي له قيمة عندنا في هذه المحاضرة هو الرقص. المرجع الأساسي هو كتاب ‘ مذكرات حكمت فهمي’ لأنها تكشف فيه عن أسرار العلاقة بين السادات والمخابرات الألمانية, إعداد حسين عبده, ط 1, 1990, كتاب الحرية 25, ص 5: “كانت الراقصة حكمت تتربع على عرش الرقص الشرقي جميلة فاتنة, وهي صورة للجمال العربي الأصيل . ذات جسد رائع, حركاتها متجانسة, ورقصها ممتاز’.
الكاتبة غادة السمان نشرت أخيرا كتابا يحمل عنوان ‘رقصة البوم’.
الأستاذة تؤكد على جميع الطلبة أن يتتبعوا كل الأخبار المتعلقة بالرقص. تقرأ عليهم خبرا نشر اليوم بصحيفة القدس 8 – 10 – 96, ‘الذعر يسود أوساط الراقصات المصريات بسبب حكم قضائي يمنع حضانتهن لأطفالهن…’
تقترب من الطاولة, تمسك ديوان ‘رقص مشتبه به’ وتدسه في المحفظة. تتأهب للخروج و تتساءل في صمت رهيب: جنت الطالبة ف- ب؟. الجنون غواية يشبه الرقص. تمسك بخشب جنب الطاولة و تقول متلعثمة:
– يجب البحث عن الهامش الأنتروبولوجي في الثقافة العربية. يجب أن نفترض معنى داخل النص المغيب. يجب مساءلة هذا المعنى على أساس أنه حقيقة. مثلا تيمة الرقص في المتن الحكائي؟ الرقص في كل مكان؟ الرقص في الشقة المغلقة بالرباط؟ الرقص في باحة عرس تقليدي بدرب الحرة بمدينة فاس؟ الرقص في مسلسل الراقصة والطبال والحوار بين رجل سياسة وراقصة, عندما تقول نبيلة عبيد لرجل السياسة أنت ترقص بلسانك وأنا أرقص بكفلي؟.
يجب أن نسقط علامات الاستفهام ونكاشف الحروف في غليانها حتى نصاب بالدهشة ونصرخ. إياكم أن تخلطوا بين نبيلة عبيد الممثلة ونبيلة إبراهيم الناقدة .
تقول مازحة:
– ربما شتمكم زوجها عز الدين إسماعيل.
يلذ لها الحوار مع الطلبة, لا تبرح مكانها وتقول لهم:
– الرقص مهم وتقام له المهرجانات… ‘ رقصة المضلة’ بلندن ‘ بوبي أي’. الراقصة الأمريكية ‘سارة جيسيكا باركر’ أصبحت تؤدي تمريناتها على موسيقى الروك أندرول المسجلة من شعر جلال الدين الرومي.
يالتبس على الأستاذة الأمر وترغب بأن تعطي ملخصا للمحاضرة قبل أن تنصرف إلى قاعة الأساتذة. تتأخر في خروجها من قاعة المحاضرة, تذكرهم بأن الطالبة ‘ ف . ب ‘ المقيمة في باريس هي المحور الأساسي لهذه المحاضرة, وهي بداية الحركة النسائية الرائدة بالمغرب والمقيمة بفرنسا, ونعتمد فيها على الرقص. مرتبكة تقول:
– انظروا معي ص 56 “سنة 1946 – أو 1947 لم يكن عمر الهادي قد تجاوز الثامنة, ذات صباح مشرق, ربما بداية الصيف امتلأت الأزقة والأسبله
استوقفتها كلمة أسبله, خفت صوتها وسجلت اللفظ على السبورة. التفتت قائلة:
– الأسبله جمع, هل تعني السبل؟. إذا كان يعني المؤلف بالأسبله الأزقة فالجمع هو السبل, ومفردها السبيل. ومها جاء ” جنان سبيل ” , وإذا كان يعني السقاية حسب اللفظ بالدارجة المغربية وهي التي نسقي منها الماء فالجمع هو السبالات ومفردها السباله. إذا عدنا إلى كتب التاريخ نجد أن السلطان قايتباي أحد سلاطين المماليك في مصر قام ببناء السبيل عام 1498 ميلادية في مدينة القاهرة الفاطمية. يقدم السبيل الماء البارد للعابرين وأبناء المنطقة المحيطة بشارع الصليبية قرب شارع المعز, ويضم قسم من السبيل مكانا لتربية مجموعة من اليتامى الذين يقيمون فيه. يتكون السبيل من بئر ترفع مياهه إلى صهاريج بواسطة ناعورة, ويتم تبريد المياه عبر إغلاقها من علو مرتفع على رخامة تحمل منتصف غرفة السبيل فيندلع رذاذها عاليا في الهواء, فيتم تبريده ويجمع في حوض للشرب. يعتبر سبيل قايتباي أكبر سبيل في القاهرة , ويليها سبيل عبد الرحمن في شارع المعز, ثم سبيل محمد علي باشا… أسبة غير عربية. سبيل جمع سبل.
تتابع قراءة النص الروائي المقرر
– “… اصطف الرجال والنساء والأطفال… في انتظار موكب المخازنية الذين يطوفون ‘الضب’ عبر مسالك المدينة كلها, تأديبا له على ما اقترفه في حق فتاة من عائلة معروفة كانت ضمن الفتيات الرائدات في الالتحاق بالمدرسة واللاتي خرجن سافرات…’
تقول لهم:
– من المحتمل أن تكون فوزية هي زميلة البطلة ‘ ف . ب ‘ التي تعرضت إلى الاغتصاب عند انصرافهما من المدرسة. قادها عنوة إلى روض قريب حيث عذبها قبل افتض
اضه إياها بوحشية وفظاظة…. لقد كانت المرأة زمن الحماية يدافع عنها بغيرة من الحركة الوطنية, الآن أي حركة وطنية و أي علماء يقفون مع المدونة الجديدة.
يجب أن نؤرخ لبداية الحركة النسائية بالمغرب مع ‘ ف . ب ‘ سنة 1965 عندما حصلت على الباكلوريا وغادرت البيضاء إلى باريس. وننتبه إلى أن أختها أكبر منها اسمها مها رحلت قبلها, غادرت البيضاء إلى باريس 1958. المهم عندنا هو بداية إقامة الطالبة المغربية في البلد الآخر.
أبو أسد يريد أن يؤِرخ معها لهذه البداية يصر على أن ‘ ف . ب ‘ بداية للحركة النسائية خارج الوطن. يحدثها عن زميلته في السور بون ‘ ف . ب ‘:
– صادفتها في باحة جامعة محمد الخامس بكلية الآداب, الرباط شتاء 1970. بعد أن درست شهرين… عزمت على العودة إلى باريس… قالت لي: سأعود إلى باريس وأنا مدركة أنها تغيرت عما كانت عليه سنة 1965 عندما وصلتها أول مرة, واعية بما أحدثته إقامتي من تبديلات لدي. أخيرا تجن, تفقد مدركاتها العبقرية وتعود إلى المغرب لتحتمي وسط عائلتها بالبيضاء.
كان الطالب المجد في باريس كلما شعر بالبرد القارص يجتاح جسده يكتب رسالة إلى منى بالقرية الجميلة. الطالب المجد في أروقة السور بون يحكي عن ‘ ف . ب ‘:
– كنت أشعر أنها أكبر مني سنا, ربما لأنها أكثر مني إشعاعا, ومع إشعاعها الفكري الثاقب والسابق لأوانه, انسحبت من زمالتها. لا أعرف لماذا, ربما أوعزت ذلك لكبر سنها المحتمل, ربما لأنها تدخن أكثر مني, ربما لأن وجهها شاحب ومخيف, ربما لان يديها باردتان ترتجفان, ربما لأن جسمها نحيف دون شحم دافئ, لا يغري بالليل, ربما لأنها تقرأ ألف كتاب وكتاب في كل ليلة, وربما لأنني عندما أقترب منها وألمس خدها برفق أشعر بالبرد يجتاح جسدي. بسرعة البرق ابتعدت عنها, دخلت مورقة و اشتريت أوراقا ورسائل لأكتب رسالة حب.
“من باريس إلى اتزر
فاثنتي …”
تلح الأستاذة على تذكير الطلبة بأن التيمة الأساسية هي الرقص والحركة النسائية و التغيير. أحد الطلبة يرفع أصبعه و يقول للأستاذة:
– لماذا لم يتزوج المهدي ب ” ف_ب ” ؟ رقصا معا أيام الجمر لكن كانت وحدها ترقص على الجمر لم يحصل التغيير جنت بعبقريتها . ما أجمل أن يطلب رجل امرأة للزواج وهي ترقص على الجمر فتشغل بالأولاد, وتعجن لهم الخبز, وتعصر لهم البرتقال و… و لا تنتظر الكوطا. كان على المهدي أن يكرهها على الزواج…
ترد ‘ ف . ب ‘:
– “أشياء كثيرة كانت مهيأة في أعماقي لأصير المرأة العانس المغامرة الظمآنة المتحدية للحدود و المواضعات…
يقول الهادي:
– ” امرأة لا تعترف بغير ما يستجيب للرغبة. تتكلم بصوت مرتفع لتفهم ذاتها, وتنفذ إلى ذوات الآخرين, تناقض رموز التسلط, والوصاية في مجتمعنا وفي كل المجتمعات, تحلم بأن تجسد نموذجا آخر مغايرا لنموذج المرأة – الدمية “
تقول ‘ ف . ب ‘:
– ” لغيري أن تراجع نفسها وأن تميل إلى نصائح الأهل, فترتد إلى طريق الصواب وتنجب البنين والبنات, أما أنا فلا مناص لي من متابعة التجربة مهما كان المآل.”
الأستاذة يرعبها ما آلت إليه صاحبة هذه الأفكار الجريئة, وتحمد الله وتشكره أن جدتها لم تكن تحفزها على الدراسة. جدتها زهور كانت صائبة ومحقة, تتهجى الحروف دون أن تفقه معنى للكتب الفلسفية ودون أن تغرق في التجريد والتحليل. كانت تبحث عن الصور عندما تمسك بكتاب و تقرأ الحروف تاء, حاء, راء, ياء, راء. ما هي بقارئة للكتب, لكن تقرأ الحروف. أخوها عبد العزيز حمل معه في حجته الأولى مع والده, عندما عرج على القاهرة, كتاب تحرير المرأة, ليهيج به زملاءه بالقرويين, وكل زملائه يترجون استنساخه على عجل. الأم للا فضول يقلقها اللفظ الذي أصبح يتكرر بين زملاء ولدها عبد العزيز و تقول له:
– كفى من المرقة لقد تميصت .
كانت لا تفقه شيئا من مساجلات زملاء ولدها بالقرويين, تخلط بين المرقة والمرأة. سيد العباس هو الآخر بأحد أركان الغرفة يلعن صحبة ولده إلى الديار المقدسة, ويلعن مروره على القاهرة. يحدثه صديقه ويقول له:
– هل قرأت يا سيد العباس حديث الشفا بنت عبد الله.
يجيب سيد العباس على الفوز غاضبا:
– هذا حديث يدل على الجواز.
يرد بصوت خافت:
– لا تعلمهن حروفا ولا تسكنهن غروفا. الكتابة خاصة بحفصة رضي الله عنها.
في عجلة يقول:
– هذا قول فاسد لوجوه منها: أن الأصل عدم الخصوصية, فلا بد لمن يدعي مثل هذا القول من دليل, وأين الدليل هنا؟.
للا فضول لا تقرأ حروفا. ‘ ف . ب ‘ غاوية قراءة وتنتظر من يهديها ألف كتاب وكتاب. الطالب المجد في باريس يزور زميلته رفقة صديقه, الشاعر الأسمر ذي اليدين الصغيرتين المكتنزتين الجميلتين, في شقتها بباريس. تمدهما بقطع من الحلوى التي أحضرتها معها من المعمل الذي تشتغل فيه, لا تتحرج في ذكر ذلك. تصف المعمل, تلعن تعب الأشغال اليدوية والحركة المستمرة, و تذكرهم أنها شبيهة بجدتها صانعة الحلويات المعلمة بنيسة. كعب الغزال عندما تعجنه لا يجف زبده. تبدأ مساجلاتها الفلسفية والأدبية والغاوية, مزهوة تبرز قوية منتصبة على عرش المعرفة, يخنقهما تميزها المنفرد و إشراقة فكرها المتوقد واتساع معرفتها. يحرجهما توقدها, يتقزمان, يغتاظان ويتبرمان من المساجلات. الشاعر يرجو رضاها يقترب منها يقرأ قصيدة و يذكرها بما صنع الطلبة أمس بالفيلسوف. كانت ضمن الطالبات المشاركات في ثورة مايو 1968 المنتفضات في وجه السلطة الثقافية. الطالب المجد يحكي عن أستاذ كان عميدا بكلية الآداب بنا نطر, وكان حجة في مسائل التأويل والفلسفة, هجم عليه الطلاب ودسوا رأسه في سطل. في لحظة ضحكت ‘ ف . ب ‘ ضحكة طويلة وقبلتهما معا قبلة حارة دون وجل.
التقت بالطالب المجد أول مرة قرب شارع سان جيرمان. اعتادت مجالسته كانت تحكي له كل أمورها حتى العاطفية, لا تتحرج. سألته ذات مرة عن أستاذ بالجامعة بالمغرب فقال لها:
– إنه أستاذ وسيم وأديب ممتاز. نشرت له بعض النصوص في مجلة الآداب البيروتية فأصبح منذ ذلك الوقت أديبا مرموقا.
الأستاذة تقول للطلبة:
– قد يأخذكم الظن إلى أن ‘ ف . ب ‘ شخصية وهمية من صناعة السارد وكذبة من الخلق المتعارف عليه في سجل التاريخ, لكن ‘ ف . ب ‘ غير ذلك. إنها تؤرخ لبداية الحركة النسائية للطالبات المغربيات خارج الوطن والمقيمات بفرنسا, إنها ليست من بلاد الشام مثل مي التي جنت وعلى إثر جنونها رحل والدها إلى أرض نائية بجبال الأطلس المتوسط مازالت تحمل اسم بوميه. ‘ ف . ب ‘, قبل أن تجن, تعرف عليها الطالب المجد الذي كان يعبر معها أروقة السور بون. تعرف عليها, دخل معها المطاعم الطلابية و رافقها بإرادتها اختيارا. يحكي عنها حكايات تفوق الهادي الذي حدثتكم عنه سابقا يقول:
– نوع آخر من النساء يخرق كل المجالات الفلسفية والأدبية. ألحق إليها لأقرأ كتابا تحمله بيدها, فأزداد انبهارا. كانت تبدو عليها مظاهر النعمة, تعلم من حركاتها ولباسها أنها بنت عائلة كبيرة. تعرفت عليها خلال إقامتها في باريس ما بين سنة 1967 – 1970, وكانت ترغب في مجالستي. أنا كنت أشعر أنها تقتنص حداثة سني وقلة تجربتي مع النساء. عيناها عسل متعب, وجهها شاحب مكتظ, وفكرها حاد مخيف. كل شيء فيها غريب. أشعر بالبرد واكتب رسالة إلى القرية القريبة من بوميه, فأشعر بالدفء والحب يسري في عروقي, أطمئن.
منى تعلم بخبر معهد باستور بالدار البيضاء وشغب الدكتورة حنان. علمت من صاحبها أنها كانت صديقة ‘ ف . ب ‘ وأنهما شاركا معا في ثورة مايو 1968. منى معجبة بحنان لأنها تقف وتواجه الوزير, فلم يعد الوزير كوزير شهريار.
الطالب المجد يعرض عن مجالستها مرة أخرى. هي معجبة به, تراوده فيبتعد أكثر. يشعر بالبرد, البرد قارص , فيعبر جبال الأطلس المكسوة ثلجا, ينتعش ويكتب رسالة حب. يحلم, يكتب من باريس إلى قرية قريبة من قرية بوميه 10 – 3 – 1968
– فاثنتي …
منى بخلاف ‘ ف . ب ‘ لا قدرة لها علي ارتياد الحلقات النسائية بجامعة فنسين. تقلقها لغة ‘هيلين سيكسو’, لا تفهم شيئا. صديقتها إيرين تجهد نفسها لتفسر لها ما معنى الأنثوية, تقول لها يجب التمييز بين أنثى أنوثة أنثوية. لا تفهم شيئا, لا شيء يفهم من كلام سيكسو. تحضر مرة أخرى صحبة صديقتها الفرنسية حلقات علم النفس النسائي, لا تفهم. تطلب منها أن تصطحبها إلى كوليج دوفراس لمشاهدة رولان بارث, لا تمانع. صباحا يوم الأربعاء الساعة العاشرة, ودعت صغارها أسد و آية بالمدرسة ثم التحقتا على عجل, كانت القاعة غاصة بالحضور قبل دخول الأستاذ رولان بارث وكان الصحفيون والطلبة يتزاحمون على قاعة المحاضرة. قالت لها صديقتها إيرين:
– باقي القاعات غير مزدحمة و توجد بداخلها أجهزة الميكروفون لمن يريد سماع المحاضرة في هدوء.
أجابتها منى على الفور :
– لا, أجلس أرضا وأستمع وأشاهد رولان بارث. أنا لا أريد المحاضرة, أريد مشاهدة رولان بارث.
كان رجلا نحيفا شاحبا, لكن المهم عند منى أنها تراه حقيقة ولا تقرا كتبه. لا ترغب في فهم ما عصي فك حروفه, فصديقتها إرين كانت تستجيب لرغباتها. كانت تحكي لها عن المساجلات الفكرية التي كانت تقام في شقة عم أبو أسد حتى منتصف الليل ببورت إيطالي, و أنها كانت تسمعهم يرددون عناوين لكتب في نظرهم مهمة لرولان بارث, وبعضهم يحملها متباهيا مفتخرا. كانت منى رفقة أسد وآية تحضر المساجلات الفكرية ثم تعود آية نائمة على كتفيها و أسد يجره والده شبه نائم. في مرات كثيرة لا تصاحبه وتظل تنتظر عودته متأخرا. كان يجالسهم في مسامرتهم طالب نحيل الجسم وطويل القامة, لم يعد يختفي مرة واحدة لأنه يدرس في باريس آمنا مطمئنا. هدأ روعه في الغربة, وبدأ ينتقل بين أرجاء دار المغرب, يتكلم في السياسة ولا يعتقل.
منى داخل القاعة تسمع رولان بارث ولا تفهم شيئا مما يقوله. تنظر إلى جسمه النحيل المخيف, هو بخلاف الجسم الذي شاهدته رفقة صديقتها الإيرانية. الرجل العجوز كان أكبر سنا من بارث لكنه كان يبدو قوي البنية. انتظروا خروجه, كانت منى رفقة أسد وآية وصاحبها, صلوا صلاة الظهر, وشربوا الشاي مصحوبا بأكلة إيرانية خفيفة, ثم عاد الشيخ إلى سكنه , فصرخ النساء وبكين, ترجين لقاءه وهن يرددن:
– درخواست ديدار .. الله أكبر .. الله أكبر
فهمت منى من كلامهن أنهن يطلبن مقابلته. وافق على ذلك, فنزعن الأحذية, وضعوها جنبا, و وتدفقن في شغف يقبلن يده بكل حب وإكبار. انفتحت أسارير وجهها وهي تنظر إليه حقيقة. كان يجلس على سجاد إيراني من الحرير اللامع, المصحف والأدوية بجانبه. بدأ بعض النسوة يطرحن عليه أسئلة باللغة الفارسية. ظل العجوز يجيب وقد وهنت قواه والأسئلة تنصب عليه دون توقف إلى أن حضرت سيدة, يبدو عليها أنها زوج ابنه, فطلبت منهن أن يعجلن بالخروج. وقفت عند الباب وكان يبدو عليها عدم الانشراح لهذه المقابلة.
بعد انتهاء رولان بارت من محاضرته حكت منى لصديقتها إيرين عن أمر زيارتها لآية الله الخميني . كانت بيدها صحيفة لومند الفرنسية وبدأت تقرأ عليها:
– للغرب أن يخاف صعود نجم أية الله الخميني؟.
يعودان إلى البيت, فتدخل منى إلى المطبخ وتعد شايا أخضر. أبو أسد بالبيت يحدث صديقتها إيرين, يقول لها:
– إن العرب لم يقدموا بعد للغربيين كشف الحساب لكي يفهموهم بالأرقام وبشكل عقلاني تماما أن الحضارة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية إلى الآن مدينة للعرب لا على الصعيد المالي فقط, ولكن على الصعيد العقائدي أيضا. العرب لا الإسرائيليين أو الأتراك أو الفرس هم الحاجز الحقيقي ضد تقدم الشيوعية. العرب هم الذين يمنحون الأمان والطمأنينة للبحر الأبيض المتوسط, لأنهم يسيطرون على شاطئه الجنوبي وشاطئه الشرقي والبحر الأحمر, لأنهم يملكونه بأكمله, إنهم ما يزالون أكبر المستهلكين وأقدرهم على الدفع…
عندما كان يتحدث أبو أسد مع إرين كانت منى تتذكر حديث الأمس رفقة سيدة ألمانية كانت جالسة على مقعد بحديقة ‘ اللكسبمبورغ ‘, وكان بالقرب منها أسد وآية يلعبان. السيدة الألمانية تقربها سنا, فصل ربيع, السائحة في عطلة, تنتعش تدفئها شمس باريس وتقول لها:
Ah. so ein some!
لم تفهم لغتها لكن علمت من قولها أن الربيع في باريس رائع ومنعش, والشمس دافئة. هي لا تعلم أن شمس المغرب أجمل. تحدثا طويلا عن الشمس و أغرتها منى بالزيارة إلى المغرب. علمت أنها غير متزوجة ولا مثقفة ولا تعنيها الأمور الفلسفية والأدبية ولا الدينية فقد تحدثا طويلا. كانت بسيطة بلا عبقرية ولا جنون. منى في المطبخ تبتسم وتتذكر. تبادلا العناوين وواعدتها بزيارة إلى المغرب الصيف المقبل. كانت تحمل بيدها حقيبة خضراء, تنظر إلى الشمس طويلا, تدهشها الشمس الدافئة, تنتعش, وتغرق في صمت شبيه بصمت للا فضول. علمت عنها أشياء كثيرة دون أن تفقه لغتها الألمانية, لأن القاسم المشترك الكوني بينهما أعظم من اللغة.
في عجلة تجمع الأستاذة أوراقها المبعثرة من الطاولة وتدسها في محفظتها المختلطة. تعلن عن نهاية المحاضرة وتقول لبعض الطلبة المحلقين حولها:
– الحصة القادمة نقرأ الماء في الرواية العربية.
منى تستمع إلى محاضرة أستاذة مغربية تدرس بالجامعة الفرنسية, الموضوع ‘منطق الرياضيات’ 13 – 10 – 96 مساءا. كانت سيدة بجوارها تخط بقلم أحمر على أوراق غير منتظمة, تلتفت منى إليها وتسألها:
– أنت فوزية.
تجيبها ضاحكة كالمجنونة:
– لا, أنا درية شفيق. درست في السور بون ونلت شهادة الدكتوراه ثم عدت إلى القاهرة واقتحمت البرلمان. كما أصدرت بيانا لوكالة الأنباء الأجنبية هذا نصه: ‘ أمام الظروف القاسية التي تتعرض لها مصر قررت بحزم أكيد أن أقوم بالإضراب عن الطعام حتى الموت وذلك ابتداء من الأربعاء فبراير سنة 1957 بالسفارة الهندية بالقاهرة, من أجل استخلاص حريتي الخارجية والداخلية. بصفتي عربية مصرية, طلبت من السلطات الدولية العمل على انسحاب القوات الإسرائيلية فورا من الأراضي المصرية, والوصول إلى حل عادل ونهائي لمشكلة اللاجئين العرب. كما طلبت من السلطات المصرية رد الحرية التامة للمصريين جميعا رجالا ونساء, بانتهاء الحكم الدكتاتوري الذي يسير ببلادنا إلى الإفلاس والفوضى. إني إذ أقدم على التضحية بحياتي بتحرير بلادي أتحمل وحدي مسؤولية هذا العمل, وقد تركت زوجي الدكتور نور الدين رجائي وطفلتنا, فإذا مسهم سوء فإني أحمل الضمير العالمي مسؤولية ما قد يصيبهم’
وقعته باسمي درية شفيق.
تتكلم درية (ف. ب.) بعصبية مسرعة وتقول:
– هل قرأت تعليق جريدة ‘ ديفلت ‘ الألمانية التي أعلنت عن قضيتي. جاء في هذه الصحيفة: ‘ رفعت امرأة من وادي النيل لواء المقاومة, إنها درية شفيق و هي في السابعة والثلاثين من عمرها وزعيمة المنظمة النسائية بنت النيل. ‘
جحظت عينا الشابة المجنونة وقالت مؤكدة:
– أنا درية شفيق. أنا رغم كل شيء أحب جمال عبد الناصر. عبد الناصر رفع رؤوس المصريين بعد انكسار طويل.
انتهت المحاضرة من إلقاء محاضرتها, صفق لها الحضور ولم تفهم منى شيئا. انصرفت المحاضرة رفقة أختها ‘ ف . ب ‘ وهي شبه مجنونة, وانصرفت منى رفقة أختها فدوى. كانت الأمطار تسقط بغزارة وهي تفكر في الرقص.
.
June 4, 2008
الفصل التاسع
فلة, ابنة حمدة, صبية جميلة,عيناها بلون السماء, صافية بصفاء بحر الأبيض المتوسط. لا تتوانى في مد نسبها من جدها لأمها إلى أهل تلمسان الذين حطوا بفاس فارين من الاستعمار الفرنسي, ولا تفتأ تفاخر بأن أهلها أكثر أناقة وتحضرا من أهل فاس. تستيقظ فجر كل يوم مشرق جميل, تصعد إلى السطح تسقي غرس الحبق , يتطاول إليها نظر شاب فقيه عالم, يرمقها بغمزة حب و يقول لها:
– للا زينت الحبق وترشو, لله عدلي شحال من ورقة في طرفه.
ترد عليه:
–سيد لفقي يا عالم, يا قاري كتاب الله, اشحال من نجمة في السما, واشحال من حوتة في الما, واشحال من مرة اقرتي كتاب الله؟.
يتحابان ولا يتزوجان, تتزوج عالما حقيقيا ومناضلا وجيها في حركة استقلال المغرب, يترك لها البنين والبنات ويزج في الزنزانة. الجد حمدة يلعن السياسة وما جاء منها, لأن صهره الطاهر غيب من أجل الوطن في السجون. تجن فلة, وينتهي الحب. لم تعد تسقي الحبق. اختل عقلها لأنها كانت تنتظر الجواب عن سؤالها:
– اشحال من نجمة في السما واشحال من حوتة في الما واشحال من مرة اقرتي كتاب الله؟
الفقيه, العالم الحقيقي صاحب فلة, لا تجرأ أن تسأله كم مرة قرأ كتاب الله؟. كان يزهو بقوة منكبيه وشموخ جسده, وتبجيل سكان فاس لغيرته على وطنه, وفصاحة بيانه وقصائده التي تهز همم الرجال للدفاع عن الوطن. لم يكن له من الوقت ما يجعله يختلي بصاحبته, ويجلس الساعات الطوال يسأل عن همومها النفسية. هم الوطن يستولي عليه بالليل والنهار.
منى تتساءل هل الزواج المبكر اغتصاب؟. وهل زواج الصبية الجميلة برجل ابنه الأكبر في مثل سنها جريمة؟. بكت فلة يوم زواجها وذبلت أوراق الحبق.
يطيب لمنى أن تقرأ مذكرات حميها, تدهشها بعض الأخبار التاريخية. صاحبها يحدثها عن بعض منها, عندما يراها تقرأ ها يقول لها:
–اعتقلوه, اعتقله الفرنسيون فرموا به في جب عميق وكانت سنه تتجاوز الثلاثين, السبب أنهم اتهموه بتحريض قبائل الأطلس على رفض قوانين ‘إزرف’. لما ألقي في الجب, صار يقرأ القرآن العظيم, إذ كان يحفظه عن ظهر قلب, فسمع المراقب الفرنسي صوته وهو يقرأ القرآن في الليل, واستدعى كبير حراسه وسأله:
– ألم أقل لكم أن تنزعوا منه أوراقه وكتبه وكل شيء, ما عدا ما يستر به جسمه؟. فقال الحارس:
– إن هذا الرجل عندنا يمثل صنفا من الناس يدعون بالعلماء, وإنه لا كتاب بيده ولا أوراق في جيبه, يحفظ القرآن داخل قلبه.
كتب المعتقل في مذكراته أنه حين خرج من الجب, بعد ستة أشهر, خرج بأظافر اكبر من براثن الأسد, وبلحية وشارب لم يعهد لهما مثيل. ذكر أنهم كانوا يقذفون إليه في الجب بخبز يابس, وكان لا يعرف ليله من نهاره, ربما عرف المساء. كان المراقب يأمر بتدويش الجب حتى يزداد بردا ويلقى حتفه ويموت, لكنه كان قوي البنية شديد المراس. خرج من السجن, وطردوه من مدينة خنيفرة, فالتحق بقرية الحاجب, واستدعاه مراقبها المدني وقال:
– لا يقيم في بلدنا من طرده جيراننا.
عاد إلى أمه بمدينة مكناس, فكان فيما حكاه يمر بالشارع والزقاق, ويرى في أقصى الطريق بعض أصحابه ومعارفه فيلوون وجوههم, وينقلبون إلى طريق آخر خوفا من أن يراهم الفرنسيون معه لأنه وطني. وقد كسب من هذا العمل الوطني مرض الروماتيزم. قال له أحد أبنائه يوما:
– لماذا لم تعتزل السياسة وتهتم بشؤونك الخاصة كحال جدي؟.
طرده من الدار وقال له:
– أتظن أني فعلت ذلك من أجل الخبز والشواء, فعلت ذلك لأني أومن بالسياسة .
منى لا تعرف الجد الذي ضرب به الصبي المثل, إنه حمدة. عاصر ما قبل الحضور الفرنسي في المغرب, وعاصر الحضور نفسه, وعاصر ما بعد الحضور. كانت هذه الحوادث التي تهم السياسيين والوطنيين لا تعنيه في قليل أو كثير, بل إنه أبى أن يزوج ابنته للطاهر, لا لكبر سنه, ولكن لأن فضوله السياسي لم يعجبه في غالب الظن. انقلب بعد ذلك حمدة إلى موقر كبير له, فكان يقبل يديه, وحين سأله حفيده يوما:
– لم تقبل يديه ؟
قال:
– أقبل يديه لا لأنه وطني ومناضل, أقبلها لقربه من النبي صلى الله عليه وسلم.
في مثل قوله هذا يتضح لنا أن حمدة كان بعيدا كل البعد عن السياسة, بل يكره ويلاتها وما خلفته من تعب لبنته فلة التي كان يتركها الطاهر على حين غرة ويزج به في السجن. حمدة يكره السياسة والفتن وكل ما له علاقة بالنضال والوطنية. مرة فاجأ أحفاده, والمعتقل الطاهر في السجن, فقال لهم:
– أسرعوا إلى البندقيات.
فقالوا له:
– أي بندقيات؟.
فقال:
– لقد رأيت والدكم قبل اعتقاله بقليل يدفن بندقيتين. جاء يحملهما فحفرنا في وسط الممر الأسطواني مكانا لهما ودفناهما فيه.
أبو أسد يحكي لصاحبته :
– حصل المغرب على استقلاله وانطلق قوم في فاس يطاردون أتباع طريقة دينية سموها طريقة الزيتوني. كان أتباع هذا الرجل ملتحين جميعا, وكان من سوء حظ حمدة أنه كان ذا لحية بيضاء, على أساس ما كان يظن أنه سنة نبوية, فلما علم بذلك أحفاده صاروا يخوفونه ويزعمون أنهم سيرشدون المطاردين إليه. صار في حيرة من أمره, أيحلق لحيته التي صاحبته سنينا أم يتركها ويتعرض لاعتداء المعتدين؟. وفي نهاية الأمر تركها وسلم أمره لله.
كان حمدة ورعا تقيا مواظبا على الصلاة. في شبابه كان من أتباع الطريقة الدرقاوية, وكان يتبرك بمساعدة شيخه الجليل على المضي في الطالعة الصغرى بفاس من عين علو إلى باب بوجلود. هذا الشيخ الجليل كان يحتاج إلى استراحات متتابعة في الطالعة الصغرى, ولهذا نصحه بعض العلماء الثقاة بالزواج. تزوج شابة حسناء, فصار لا يحتاج إلى مساعدة حمدة, وأصبح قادرا على مجابهة صعوبات الطريق المشهور في مدينة فاس.
أبو أسد اعتاد أن يحكي لصاحبته بعضا من زمن طفولته ويقول لها ضاحكا:
– حدث يوما لحمدة وهو شيخ هرم, ما يصح أن يوضع في حظه التعس من المصائب في الدنيا, ذلك أنه كان يستعد في صبيحة كل يوم للصلاة, وكانت امرأته قد اعتادت أن تضع المرجل على التنور ليلا, حتى تقيم الشاي صباحا. استيقظت باكرا وضعت المرجل على الأرض ودخلت إلى المطبخ لتضيف قطع الفحم في التنور, و بينما كان حمدة في طريقه إلى بيت الماء ليتوضأ حمل المرجل, وذلك لأنه كان شغوفا بالاغتسال وحب الطهارة بأصولها, فقد أراد أن يطهر أعضاءه الخاصة وهو مقرفص, فلما صب الماء على عضوه الأوسط, قفز صارخا وهو شيخ كبير, فانطلق يغوت, فكنت لو سمعته تحسبه صراخ طفل قوي الصوت أوذي في أعز ما يملك. استيقظت بناته الثلاث المتزوجات, ضحكن بعد أن مر ألمه بسلام واطمأنن على سلامته, وفي استحياء أصبحن يحكين قصته تفكها.
للا فضول شيخة تجلس بباحة المولى إدريس, تحكي لها أم فلة عن صاحبها حمدة وفضيحته أمام بناته, يضحكان معا. للا فضول أشد تيقظا وانتباها, هي أيضا مبتلية بالطهارة لكنها حذرة, لا تصب الماء إلا بعد أن تتيقن من حرارته. تحترس تصب الماء قليلا على كف ظهر يدها اليسرى ثم تصب الماء بكثرة, فيغمر الماء كل جسدها. السيدة فضول تبالغ في طهارتها, وتغار النسوة منها. الفوطة المكررة أطرافها بالحرير الناصع, تأخذها من فوق كرسي خشبي, تلفها على جسدها, تنتعل قباقب الخشب, وترتدي ملابسها على مهل, تمشي على أطراف بنانها, تلامس الأرض حذرة, تخاف أن يستيقظ سيد العباس ويشتت رزمتها وتضيع حبات عقد القفطان. هادئة مطمئنة تقضي أغراضها في خفاء وصمت. أجمل لحظاتها مع بزوغ فجر يوم جديد, صاحبها يستسلم لنوم دافئ قرب دادا الياقوت ويحلم بعوالم ألف ليلة وليلة, هي تذكر و يسمع لها صوت ناعم:
– انعم صباحك يا ضوء الله
يا الشارق في بيت الله
قل لحبيبي رسول الله
يقف على خروج روحي لله.
للا فضول تتوضأ للصلاة, قطرات الماء تتساقط من أطرافها, لا تنشف الماء بمنشفة, تعرف أنه سنة. تفقهت على يد والدها, تحب الماء أن يغمر جسدها.
يحكي لها صاحبها عن طفولته وتردده على حي الرميلة لزيارة جده الملتحي, الذي لا يفقه في علم السياسة. منى تتابع على قناة الجزيرة ما حصل للعراقيين في الرميلة, تجد نفس الحي يوجد في فاس و مراكش, وبغداد. تتعجب و تتساءل عن المشترك اللفظي؟. تسمع عن المذبحة التي أثبتها تحقيق الصحفي الأمريكي ‘سيمون هيرش’, والتي ذكر فيها أن وحدة عسكرية أمريكية فتحت النار على فلاحين عراقيين رفعوا الراية البيضاء, وتم قتل عشرين شخصا من بينهم. ورد في تحقيق أن أحد الجنود الأمريكيين ذكر أن الفلاحين قد استسلموا, ولكن القيادة الأمريكية أمرت بقتلهم. بالرغم من التناقض والتعتيم الذي ورد في التحقيق بهذه القضية, فقد جاء في التحقيقات أن الجنرال ‘ماكافري’ أمر بقتل الأسرى والمستسلمين العراقيين في الرميلة, واستشهدت التحقيقات بما حصل من قتل في قاعدة جالبية الجوية. الجنرال ‘ماكافري’ شن انتقادات عنيفة على الوثائق التي فضحت أفعاله التدميرية للإنسان في العراق, والتي قد تكون عن رغبة شخصية أو عن إخلاص لتنفيذ أوامر الإدارة الأمريكية. لقد حصل الجنرال ‘ماكافري’ على وسام رفيع لبطولته في تلك المذبحة قبل أن يصبح مؤهلا لموقع المستشار للرئيس الأمريكي كلينتون الذي خلف الرئيس جورج بوش المدبر الرئيسي لمحرقة حرب الخليج.
أبو أسد لا يفتأ يلعن دراسته التي درسها بالصدفة لا بمحض إرادته, فقد كان يحلم أن يكون خبيرا من خبراء علم التعذيب والحرب ليكاشف حقيقة البشرية. ازداد الحلم كبرا فعندما كان الطاهر يغيب في السجون كان ولده يحلم بالمغرب . إدوارد سعيد كذلك كان يحلم, فقد كان والده جنديا في الجيش الأمريكي يقاتل من أجل الولايات المتحدة الأمريكية وكان هو يحلم بفلسطين. ما أجمل أن يحلم الأطفال رغم التناقض القائم بين آبائهم ؟. ما أجمل أن يحلمون بركوب عربة مذهبة من خشب الأرز و يقطعون بالقوارب بوغاز جبل طارق.
منى لا تحلم بعربة ولا بقارب لأنها لا تفقه في علم السياسة , تدخل غرفة صاحبها و تقرأ مسوداته 7- 3- 1993 “… يتكلمون عن الخصوصيات بعد تأسيس الأوطان. ما كان يطوف ببالهم شيء عن الخصوصيات الوطنية التي يتحدث عنها فلاسفة ومجانين السياسة, يقول دوكول والفرنسيون عامة: إن فرنسا خالدة قديمة كانت مع كون الكون. يتكلمون كما لو لم يؤسسها أحد, وكما لو أن الفرنسية صفة ملتصقة بأرض ثابتة لا تتغير حدودها منذ أن كانت لها حدود, الحدود وهمية كاذبة”.
منى تحلم بوطن بلا حدود. يعود صاحبها إلى البيت متأخرا, تدخل إلى المطبخ, يلحق بها ويحكي لها عن أحداث طفولته, يرغمها على السمع, هي منشغلة بإعداد أكل شهي ‘القدر الحمام باللوز’, يلتصق بها ويقول:
– … سنة 1958 كنت صغيرا يافعا وحدث أن سكن والدي بمدينة وجدة, فانتقلنا إليها وأقمنا في بيت أرضي بالمدينة الجديدة. في الشارع الخلفي كان يوجد منزل لأسرة لا تبدو عليها صفات خاصة, فكانوا كالمغاربة شكلا وحالا. تعرفت على أحد أبنائهم, وكلمني وكلمته بالعربية الدارجة, فوقع في ذهني أنه مسلم مثلي. كان لا يختلف عني في اللون والشكل, كان قصير القامة ودودا, وكان ينظر إلي كما كنت أنظر إليه, فلم يكن يبدو عليه أنه يعدني من جنس أو قوم آخرين. كنا نتجول في البقع الأرضية الخالية من الجهات المحاذية لمنازلنا, وكنت فرحا بمصاحبته, ولاسيما أني كنت على ألم لمفارقة خلاني بمدينة مراكش التي أقمنا فيها قبل انتقالنا إلى وجدة. وذات يوم قال لي:
– هيا معي لنشتري الخمر.
فقلت له مندهشا:
– ماذا؟ نشتري الخمر؟ الخمر حرام.
قال لي:
– لا, ليس حراما, نشربه في منزلنا.
لم أصاحبه إلى ما أراد, وعدت إلى دارنا متسائلا قلقا. يشربون الخمر في بيوتهم ما هذا؟ أليسوا مثلنا يحرمون هذا الشراب الذي يدعى خمرا في بلدنا؟. علمت فيما بعد أن ما يسمى خمرا يختلف من بلد إلى بلد, ومن طائفة إلى أخرى. علمت أيضا من خليلي الوجدي أنه ينتمي إلى طائفة غير إسلامية, وعلمت أنه كان يظنني من طائفته, وكنت أنا أيضا أظن أنه من طائفة المسلمين. في علاقة الصداقة التي ربطتني معه قبل افتراقنا, كان المسيطر اعترافنا معا بانتمائنا إلى الطائفة البشرية.
انتقلتا إلى دار أخرى, ثم انتقل والدي ونحن معه إلى تازة و ثم إلى فاس. بقيت قصة هذا الصديق الصغير, الذي لم تجمعني معه إلا الصفة الإنسانية.
صاحبها يلذ له أن يحكي عن طفولته. منى ترغب أن يجيبها عن بعض تساؤلاتها, تقول له:
– لماذا فضلت أم جندب شعر رجل آخر على شعر صاحبها. هل هي ناقدة؟. لماذا طلقها؟.
يجيب متبرما:
– هذا كلام يحتاج إلى قراءة طويلة لمكاشفته ….
منى يعجبها أن تطرح الأسئلة العصية على صاحبها. غالبا يلوي ظهره وينصرف. لا يجيب إلا عن الأسئلة التي يرغب في أن تدمغ في ذاكرتها والتي يستحسنها. تعرف أنه يحيط الشعر العربي القديم بهالة من القداسة ويحفظ غالبه. يبدو منتشيا عندما يردد بعض الأبيات بقافية منغمة جميلة.
منى معجبة بصاحبها و تداوم على قراءة مسوداته, لأن بعض هذه المسودات تفصح لها عن الكتابات الرجولية غير المدونة. يشتد إعجابها عندما تقرأ نصا يكاشف الحقيقة. تقرأ المسودات وتتذكر أحاديث خالتها, فهي الأخرى كانت معجبة بصاحبها رغم شدة بخله عليها واستهزائه برحلاتها المستمرة إلى مستحم ‘مولاى يعقوب’. تفخر في حفل النساء ببنتها من الرضاعة عايدة التي تحبها أكثر من بناتها, و تحكي عن نضال أخ بنتها من الرضاعة فتاح, منوهة بشجاعته:
– اعتقلوا فتاح.
كان شابا وسيما, دخل السجن بالقنيطرة, وهرب راجلا إلى حدود تطوان, ثم عاد إلى الرباط متخفيا بزي نسائي. مرة عرج على باب سكن والده فوجد بالباب أخته عايدة, لم تعرفه, أعطاها ريالا وانصرف. ظلت عايدة تذكر دائما الريال والمرأة الملثمة بلثام أسٍود. عندما كبرت زارته يوما بمنفاه في باريس وقال لها:
– تذكرين امرأة أعطتك ريالا وأنت واقفة بباب الدار, إنه أنا أخوك فتاح.
عايدة يعز عليها فراق أخيها, تزوره صيف كل سنة, غربته قاسية, وتنتظر عودته إلى وطنه. منى تتذكر أحاديث خالتها التي كانت تزور مدينة الرباط بكثرة. أبناء أختها كانوا ينتظرون عودتها إلى مكناس لتحكي لهم بإعجاب عن ابنتها من الرضاعة وجمالها الفاتن:
– كنت عند ابنتي عايدة, إنها قطرة عسل في قلبي. منذ اليوم الذي وضعتها أمها في حجري, عندما كنت جالسة على حافة صهريج مولاي يعقوب, وأنا أزداد يوما بعد يوم حبا لها. أحن دوما إلى زيارتها. إنها نجمة تتللا وتفتن جمالا, سواد شعرها واتساع عينيها يعجبني, إنها شبهي. أذكر أول يوم أمسكت فيه حلمة ثدي بسهولة و فرحت, لقد كانت جائعة. أمها غاصت داخل الصهريج منتشية مبتهجة, تزغرد و تصلي على النبي, أرضعتها وكان بجواري ولدي رضا يمسك بيدها.
خالة منى مسكونة بماء مولاي يعقوب وتعتقد فيه البركة و الشفاء, بخلاف أم عايدة التي تعتقد بكرامات سيدي احمد بن إدريس, وتقسم أنه يبعد الشر والعين ويطيل العشرة بين الزوجين. خالة منى لا تعرف شيئا عن كرامات سيدي أحمد بن إدريس, أم عايدة تحكي لكن لا تغريها الحكايات بالزيارة, إنها تحب الماء أن يكون مصحوبا بالعري داخل صهريج مولاي يعقوب. الماء عندها يشفي عندما تستحم المرأة و تغوص في عمقه. للا زهور تعنف ابنتها لكثرة ترددها على صهريج مولاي يعقوب وتقول لها:
– أنت تشبهين عمتك البتول, هي كذلك شديدة الاعتقاد بكرامات مولاي يعقوب. تعتقد فيه الشفاء و تغرف الماء وتصبه عليها .
يلتقيان في الصهريج. العمة تحدث ابنة أخيها في ود وحنان, تقول لها:
– كيف حالك مع زوجك؟.
– أللا عمتي يقتلني بخله, عشرة ريال آخذها بالسيف لأذهب إلى الحمام, أما مولاي يعقوب فيقع عليه الطلاق والفراق. يردد دائما أنني أتلف ماله وأضيع له رزقه وهو رجل لا ثروة له.
– أللا بنتي أبوكم الذي رباكم في الخير كان لا يعرف الاقتصاد, أنشأكن في بسط ورغد من العيش. اسمعي يا بنتي هذه الحكاية التي كنت أحكيها لأخي خوفا عليكن من عسر الزمن, خصوصا عندما كنت أرى إسرافه عليكن وما تتمتعن فيه من رزق وفير. إن قنطرة بن طاطو بفاس بناها رجل من هذه المدينة اسمه بن طاطو وجعل عجينها من تراب وبيض, ولم يدخل في بنائها ماء ليبرهن على كرمه وغناه.
ولما سألتها عن السبب أجابت:
– أولا أسرة بن طاطو كانت قبل انقراض نسلها من أغنى أسر مدينة فاس. ابن طاطو هذا حصل أن دخل يوما على بنته فوجدها قد أشعلت قضيبا من الوقود, وكانت العادة أن يجزأ القضيب في ذلك العهد فيشعل أجزاؤه واحدا بعد آخر عند الحاجة إليها, ولم يكن الوقود كحاله اليوم قضبانا رقيقة. غايته أن ابن طاطو انزعج حين رأى من ابنته أنها لا تبالي بالاقتصاد في استهلاك الوقود فنهرها وأدبها بالضرب وثار لذلك ثورة عمياء. انتقل الحدث من فم إلى أذن حتى وصل إلى علم وجهاء البلد, وكانوا أصدقاء له, وكانوا يعزون المرأة فعابوا عليه أن يضرب ابنته ضربا مبرحا. كانت العادة أن أهل فاس يبالغون في الإحسان إلى المرأة, واعتبر عمله منكرا واتهموه بالبخل والتقتير. كان رد بن طاطو أنه ما اشتد عقابه لابنته بخلا ولكن تربية واحتراسا من الزمن, فقد كان يخاف على بناته أن يتجه بهم القدر إلى عصمة رجل فقير فيكن وبالا عليه بما اعتدنه من تبذير. قد أراد بن طاطو أن يعلمها الاقتصاد, فضربها, وأقسم فيما بعد أن يبني قنطرة يكون عجينها من بيض الدجاج, تظل مثلا يضرب عن شدة الكرم والسخاء وحتى لا ينعت بالبخل من طرف أصحابه. وكان في ظاهر المدينة ممر ماء ليس عليه جسر فأمر البنائين فبنوه كما شاء له. الرجال يا بنتي قد يقل مالهم وقد يغيبون في السجون ويتركون صغارهم في حاجة إلى الأكل.
اعتقل الطاهر في السجون, وظل حمدة في شظف من العيش لا يستطيع أن يعول بنته وأولادها. يلعن حمدة العجوز السياسة التي لا ناقة له فيها ولا جمل. يشتد عسره ويزور صهره الطاهر بالسجن متذمرا. يقبل يديه لا لأنه وطني لكن تبركا منه لأنه ولد النبي.
منى تسأل صاحبها:
– عجبا, حمدة متذمر من الطاهر المهووس بالسياسة والسجون. كيف يكره السياسة؟ السياسة فيها لفلوس.
June 4, 2008
الفصل الخامس : السروال كولف والحداء ذو الكعب العالي
Posted by latifahalim under العربيةLeave a Comment
منى تعلم من خلال خفوت صوت أمها أنها لا تريد تفسيرا, وأن السؤال فيه قلة الحياء. تعلم ابنتها أنها لو عاودت السؤال لكان يوما عصيا على الذكر, ولرسمت على فخذ ها قرصة زرقاء تظل قائمة مدى الدهر. منى تلحق ببنات خالها وخالتها لتلعب في الممر الأسطواني
PASSE PASSE PASSERA LA DERNIERE LA DERNIERE
PASSE PASSE PASSERA LA DERNIERE RESTERA
Napoleon- ET MOI LA SAINTE HELELENE
LA SAINTE HELENE ET MOI NAPOLEON
SI TU VEUX FAIRE MON BONHEUR
SI TU VEUX FAIRE MON BONHE MONA DONNE MOI TON COEUR DANS UN POT DE BEURRE
TOUT CHAUD TOUT FROID
LA SEMELLE DE MON SOULIER TOUTE TROUEE.…
OH MAMAN J’AI MAL AU COEUR
UN PETIT VERGER EN FLEUR
[1] – المرقة : الماء والزيت والتوابن الدي يطيب فيه اللحم
[2] – قندريسة :
[3] – دنيا جات :
[4] – غرييبة مسوسة : باللوز وأصفر بيض الدجاج
[5] – الزوان : نوع من الحبوب يأكله الطيور .
[6] – سانجير : آلة خياطة وطرز ظهرت أيام الاستعمار الفرنسي .
[7] – صبط طالو: حذا النساء ذو الكعب العالي
[8] – طافطا : نوع من الثوب النسوي قفطان ز
[9] – موزونات : موزون
[10] – الفشوش :
[11] – نوع من قص شعر النساء
[12] – دار البيبغ : حي يسكنه الفرنسيون بفاس أيام الاستعمار
[13] – الكارطة : لعبة الورق
June 4, 2008
الفصل الرابع : الطلاق…. شبيه بالحمام
Posted by latifahalim under Uncategorized, العربيةLeave a Comment
– فدوى أختي, سأحكي حكاية من أجمل الحكايات التي حكتها لي جدتي إنها حكاية ‘صمت بنت السلطان’.
جدتي تهوي حكايات ألف ليلة وليلة ما هي بقارئة. لم تقرأ مورفولوجيا بروب, ولا موباصان كريماس, ولا المعاجم اللغوية. لكن كانت تحكي حكايات ألف ليلة وليلة. يلذ لها ألحكي, وتختفي أثناء حكيها كل أسلحة الدمار الشامل. و يوظف حاملو الشهادات, و يسقط الدم, ويتزوج الرجل الفقير بنت السلطان.
تقول جدتي :
– كان حتى كان الله في كل مكان, حتى كان النبي صلى عليه والسلام. خرج شاب فقير يجوب أرجاء المدينة. كان همه منصبا على ما شاع من خبر صمت بنت السلطان وامتناعها عن الكلام, وعجز الفقهاء والحكام والسحرة والشعراء على شفائها. كانت تلوذ بصمت رهيب , الرعية الوفية والشعب العزيز يحملان لها حبا جما. شعر الشاب الفقير بتعب شديد واستلقى على جنب شجرة. الجوع يعصف بأحشائه وبنت السلطان تستولي على مخيلته بصمتها الرهيب. أصابته سنة خفيفة وسمع حوار حمامتين فوق الشجرة تحدث إحداهما الأخرى تقول: ”لو علم أحد بأمر سرنا لبادر بذبحنا, وجمع دمنا في قنينة من جعبة القصب, وهرول مسرعا إلى بنت السلطان.” التقط الشاب الفقير الخبر على عجل وانطلق مسرعا إلى قصر السلطان. لم يشعر بالجوع الذي كاد يمزق أحشائه ولا بالتعب الذي يشل رجليه. لم تسقط من الجعبة أي قطرة دم لأنه كان يحفظها بجوار شغاف قلبه حيث ظل الدم يحتفظ بمقدار حرارته الأولى أثناء الذبح. كانت سرعته تغلب سرعة البرق و لم تتعثر قدماه. الشاب الفقير لم يكن على علم بسرعة السكود الذي ضرب تل أبيب من بغداد, ولم يكن خبيرا من علماء تكنولوجيا الحرب. فتكلمت بنت السلطان: ”عجبا الدم ينزل من الشمعدان.” دقت الطبول, زغردت النساء وهلل فرحا سيدنا السلطان. تزوج الشاب الفقير, ابن الرعية الوفية والشعب العزيز بنت السلطان. لم يحمل لها اللؤلؤ والمرجان, حمل الدم.
فدوى تقول لأختها منى:
– الشيء الذي له قيمة في هذه الخرافة هو الدم والمساعد هو الشجرة.
– لا المساعد هو الحماتان. الحمام له انطولوجيا في الذاكرة البشرية. الحمام يذكرني بطوق الحمامة لابن حزم, الذي يسند فيه ثقافة المرأة إلى الكيد.
– هل كان ابن حزم لا يحب النساء مثل شهريار. هل أقسم أن يقتل ألف امرأة وامرأة ؟
– لا, الرجال يحبون النساء. الحب استواء نفسي للرجل , شهريار كان مريضا نفسيا.
منى تسمع والدها يغني وسط أدغال الغابة, لكن لا يطلب الناي مثل جبران خليل جبران. والدها أمازيغي أعماقه عربية, يغني بصوت شجي قرب شجر الأرز:
– افرو حمام يوفرو
يوري قيم غوري
لافوت دوين
منى لا تفقه معنى هذه الكلمات لكنها تعرف أن والدها لا يقوى على فراق صاحبته. يعرف الحب يعرف السياسة . لا لا فضول تقضي أجمل لحظاتها في سطح سكنها بدرب اللبن, تطعم الحمام بقايا حب الزبيب. تلتفت منى إلى أختها فدوى تقول لها:
– أنت أختي لا حب ولا سياسة . أنت لا تقوين على ذبح الحمام.
الدم, الدم بالصخرات ينزل , تختفي بنت السلطان ولا تتكلم. يسقط الدم والد منى يتوقف عن الغناء. الحمام قدر باللوز يحترق . الحمام عندما تتحدث الشقيقتان على شاطئ الصخرات يكون له معنى آخر. تقول لها منى:
[1] – بذلة أوربية
[2] – مقصوص على الطريقة الفرنسية
[3] – حزام من الذهب الخالص
[4] – طانكي : قطع من الذهب المخرم متلاحمة تملأ صدر المرأة ,
[5] – خيط الريح : قطعة من الذهب على شكل خيط طويل مرصع بالجواهر يوضع فوق الجبهة
[7] – خنطقرة : نوع من الحيل
[8] – السبسي : نوع من السجائر التقايدية
[9] – التنفيحة : غبرة تستنشق للانتعاش
[10] – العولة : مخزن الأكل في البيت
[11] – خوابيه : فخار يستوعب العسل والزيت والسمن والخليع
[12] – حمرية : حي سكنه الفرنسيون أيام الاستعمار
[13] – البزيوي : نوع من الجلابيب الباهظة الثمن تنسب إلى قرية لبزو
[14] –
[15] –
[17] –
[18] – البرمة :
[19] – الطيابة :
[20] – الغاسول :
[21] – القباب :
[22] – الكلاسة : التي تحرس الملابس
[23] – الكلسة :
[24] – الفرنتشي :
[25] – الكبوط :
[26] – كولف :
[27] – الدوشات :
[28] – الفاركونيت :
June 4, 2008
الفصل الثالث : هو يلعب وسط الستائر وهي تفرك اللوز
Posted by latifahalim under العربيةLeave a Comment
الفصل الثالث
هو يلعب وسط الستائر وهي تفرك اللوز
تجلس القرفصاء ثابتة مثل المسمار, لا تتحرك من مكانها, تفرك اللوز. لا حق لها أن تلعب وسط الستائر, قرب عتبة الغرفة الكبيرة, وإذا سهت ثانية وحفزتها أحلام اليقظة على تغيير مكانها بجوار جدتها, إلى عتبة الغرفة الكبيرة, لتلتف مثل أخيها وسط الستائر, تقرصها معنفة قائلة:
–أين أنت ساهية أيتها الغزالة الفاتنة. افركي اللوز بسرعة, يجب أن نطوي ألف بريوة, ومن بعد ألف كعب الغزال مفند في السكر, وألف بلا سكر, و عشرة محنشات. هذا الشغل هو الذي تحمله معها العروس إلى بيت صاحبها, لتعد له كل ما يشتهيه. يجب أن تكون يدك مثل الذهب.
يدخل الحاج اللبدة الحمراء تحت إبطه, في باطنها ربطة من النعناع. يرمق باب المطبخ, فتبادر داد الياسمين لتمسك ربطة النعناع من يده. تخاطبه صاحبته زهور متعبة:
– سيد الحاج, ادخل مد يدك و ساعدنا بشيء من البركة. إننا غارقات في إعداد الحلويات منذ الفجر.
يلتفت إليها متذمرا قلقا:
–إياك أن تقولي اللوز. أقسم بالله العلي العظيم, إذا طلبت اللوز مرة أخرى لتكونين طالقا. علي بالحرام اللوز لن يدخل بيتي.
تنظر إليه للا زهور نظرة ود ورحمة وإغراء قائلة:
–سيدي عبد الكريم, الله يزيد في رزقك, ويعطيك حجة أخرى ويطيل لنا عمرك. مازلت في حاجة إلى ثلاثين كيلو من اللوز لنطوي عشرة محنشات للصبوحي.
يرد في عجلة هادئا:
– يكون خير إن شاء الله .
تتابع كلامها, وقد لمست في صوت صاحبها قبولا وحبا وسلاما.
– إذا سمحت, اطلب لنا ذاك الشقي المحجوب خادمك في الدكان, لينزل معك غدا ويطحن لنا قوالب السكر. دادا الياسمين يدها مفكوكة.
يرد بصوت منخفض, متبرم, متجها إلى البرطال .
– أعود بالله من الشيطان الرجيم. حتى الخادم الذي يساعدني في طي قطع الثوب تطلبه لمساعدتها في زفاف ابنها أحمد, والله والله إن هذا منكر.
يحضر المحجوب, تطيب القعدة وتطول الجلسة. تقترب للا زهور منه و تحدثه بلطف وحنان مفرط, تقول له :
– أي أخبار تحمل أيها الشقي العفريت؟
يحدثها عن البدويات وحضورهن للتبرك بموسم سيد الهادي بن عيسى. يتسللن من ضريح الشيخ الكامل ويدخلن إلى قيسارية البزازين. يقول لها :
– سيدتي تعرفين الحاج صاحب الهري الكبير بالبزازين. هذه الأيام وقعت عينه على إحدى البدويات ففتن بجمالها واقسم أن يتزوج بها الشهر القادم.
حركت الجدة رأسها حركات دائرية بسرعة البرق, ملتفتة إلى حفيدتها منى, لتقول لها بصوت بطيء:
– نعم, اسمعي أيتها الغزالة هذه الأخبار, اسمعيها جيدا وضعيها حلقا في أذنيك. هذا هو درس التاريخ, لا توجد لا داهية ولا دامية.
منى تتمسح بجنبات جدتها. تقول لها والدموع تنهمر من عينيها:
– جدتي أريد أن ألعب وسط الستائر, بجوار أخي أمين.
–لا, لا تلعبي, أنت بنت. يجب أن تمعني النظر إلى طريقة طي البريوات وأن تمسكي جوانبها بماء البيض, حتى لا تنفتح عند القلي. لا تشغلي عقلك بالتاريخ إنه صناعة القوي إزاء الضعيف. مثل ألف ليلة وليلة, جدتي تحفظ الكثير منها. أنا أحكي بعضها في الظلام, لي رغبة أن أحكيها في النور. التاريخ قوتان قوة الظلام وقوة النور.
تلتفت الجدة في اهتمام بالغ إلى المحجوب. تلح عليه أن يحكي لها فضائح البزازين. تمده بحفنتين من اللوز. يقول لها :
– سيدتي للا زهور, سيدي ينتظر آذان المغرب ليهرول مسرعا إلى الزاوية, والسبحة لا تفارق يده, واللبدة تحت إبطه.
جلسات المحجوب مع للا زهور اشتدت الأيام الأخيرة, و بدأ يفضي لها بفضائح البزازين. الحاج سمح للمحجوب بولوج فضاء الحريم المغلق. يدخل المطبخ و تمده سيدته بقطع اللحم ملفوفة في الخبز. منى تحفظ التاريخ وتفرك اللوز.
المحجوب أصبح شبيها بمويط, الأسير الفرنسي الذي خرج من باريس عام 1670 وبيع في سوق النخاسة بالرباط بباب القناط. كان من حظه أن اشتراه رجل من سلا وأخذه إلى منزله فعمل مع الحريم سنتين خادما. هذه الأحداث وقعت في عهد المولى رشيد, وعندما بويع المولى إسماعيل, انتقل في ركاب مولاه من فاس إلى مكناس. وأشرف على أشغال البناء زهاء تسعة أعوام, إلى أن أمر المولى إسماعيل بفك سراحه. فرجع إلى باريس سنة 1681 وكتب رحلته عام 1683 . لكن الغريب في الأمر أن المحجوب ليس بأسير.
يحكي مويط عن رحلته و يقول :
–… وضعوني بين يدي رجل اسمه محمد اليبوسي, فأخذني معه إلى منزله حيث وجدت حماته وزوجته اللتين كانتا أندلسيتين. أخذتا ترثيان لتعاستي وأطعمتاني جيدا, ثم أعطتني سيدة البيت كيس قمح أطحنه في طاحونة يدوية كانت في مطبخها. سيدتي هذه كانت شابة جميلة جدا, تتكلم اللغة الإسبانية بطلاقة. كانت تمتعني بخبز السميد الأبيض والزبد الممزوج بالعسل والفواكه. أشفقت علي وأزاحت عني سلسلة تزن خمسة وعشرين رطلا, كان زوجها قد أغلني بها , وكانت تناديني أن أتحمل أسري بصبر.
المحجوب يساعد للا زهور لكنه لا يلج غرف الحريم مثل الأسير مويط . يصل باب الدار. يحمل لسيده القفة يدخلها إلى المطبخ و يساعد دادا الياسمين في بعض أشغال البيت الشاقة.
الجدة منهكة في طي المحنشات . الطفل أمين يدور وسط الستائر و منى حزينة تضرب على فخد جدتها منبهة إلى أن أخاها أمين سينزع الستائر بكثرة الدوران. لا تعير التفاتها أي أهمية و تجبرها على فرك اللوز, ونزع قشرته, و تنبهها إلى كيفية طي المحنشات . توصيها مرات عديدة بأن صنع الحلويات من الأشغال المهمة التي تجدها المرأة في ذراعها يوم زواجها. منى ترغب في نزع الستائر و تلح على الالتحاق بأخيها. تقرصها جدتها قرصة زرقاء. الدوران وسط الستائر يتلف عقلها و يغريها باللعب. لعبة الستائر تهواها. أمين يلتف وسط الستائر و يدور. الستائر أربعة, الأولى تسمى الخريب [1], والثانية وبر الحديقة [2] , والثالثة جوهرة الحرة [3] , والرابعة الشبكة [4].
منى تصرخ :
– للا, أللا, انتبهي خامية [5]جوهرة ستقلع من مكانها من شدة الدوران. ستسقط… سيسقط …
الجدة توجه النظر إلى خامية جوهرة المتوهجة, ذات الخطوط الصفراء من الحرير الناصع و الباهظة الثمن. تزداد الخامية لمعانا عند الظهر, حيث تنسل أشعة الشمس من ثقب الشماشية [6] متجهة نحوها فتزيدها وهجا و نورا. ترغب منى في الدوران وسطها. الجدة تشعر أن الزمن يلاحقها أكثر من أي وقت مضى, تعرف أنها تقترب من الخمسين سنة. تخاف أن تصاب الخامية بخدوش كما خدش جسدها وبدأ يترهل. تشتعل الحرارة في باطن رأسها, كأنه قدر الحمام باللوز يغلي. ينزل العرق من هامتها و تعلو وجنتاها حمرة. تعاود النظر إلى الستائر الأربعة, يبدو لها أنها بدأت تتمزق وخفت لمعانها, يعز عليها ذلك. تذكرها ببداية شبابها, فقد حملتها معها في شوارها . تعتني بنظافتها , تنزعها من باب الغرفة الكبيرة بين الفينة والأخرى, و تغسلها برفق ثم تعيدها إلى مكانها.
الجدة فطنة, تردد المثل المغربي :
– امتولة غلبت خواجية.
تعني بامتولة إعادتها جديدة إلى أول يوم من صبوحها, وتعني بخواجية, الغنية, وهي المرأة الفرنسية التي كانت تبدو عليها مظاهر الثراء والنعمة. حين يدور حفيدها وسط الستائر تنشرح, تغدو كأنها حمامة تدور حول كوكب الأرض, وان هذا الكوكب نزع عنه السحر ولم تعد به حدود. تذكر رحلتها من فاس إلى مانشستر. تندب حظها, ليتها عاشت عمرها كله بمانشستر.
أمين يمارس اللعبة في خفاء حتى لا تلحق به أخته منى. ينتعش, الله, الله … الستائر الأربعة تسعفه على الدوران, لا يتعب و يلتف وسطها بسرعة. يغمض عينيه, يحب ظلمة الستائر. منى تقول لجدتها بصوت خافت يكاد لا يسمع :
– للا . أللا لقد طويت ألف بريوا منذ الفجر إلى الظهيرة . تقولين عشر محنشات ؟ هذه أعمال شاقة , أنا ما زلت صغيرة , أرغب في اللعب وأريد أن ألحق بأخي وسط الستائر.
أمين وسط الستائر الأربعة . العتبة الرخامية الملساء ذات البياض الناصع يدور فوقها وهو ملفوف وسط الستائر كقضيب من الفضة . جسده مثبت ينتعش , يشعر بدوار في رأسه يصاب بالدوخة . منى تزداد غيظا وألما وتبرما , تحترق غيرة , تردد في غضب وبصوت مرتفع :
– للا , أللا, ستسقط الخامية, خامية جوهرة …
ترد الجدة في هدوء وبصوت منخفض :
– ليفعل سيدي أمين ما يحب ويشاء. ليلهو كما يحلو له. إنه قرة عين الأسرة . لا تفسدي عليه لعبته أيتها الحسودة. انشغلي باللوز لتكوني حاذقة في بيت زوجك…
منى تقتلها الغيرة وهي تجلس القرفصاء بجوار جدتها. تصاب بأحلام يقظة. تنسل كالشعرة من العجين و تلحق بجوار أخيها . تلتف معه وسط الستائر الأربعة, يلعبان معا فتشعر بدوار. تلصق قدميها بالعتبة الرخامية. تحذر السقوط. تسر أسارير وجهها و تبتهج. تنزعها جدتها من أحلام يقظتها بقرصة أعنف وأقوى ألما من سابقاتها وهي تقول :
– أين أنت ساهية أيتها الغزالة, افركي اللوز,أنت بنت. البنات لا يلعبن مثل الأولاد. يجب عليك الاهتمام بشغل البيت. هذه الحلويات يشتهيها الرجال, مازالت عشر محنشات…
تشعر منى بدوار يشج رأسها. تعصف بجسدها مواجع الغيرة, يلسعها التمايز و ترفضه. لعبة الستائر تغريها. يسرع الزمن. يتوقف الزمن. تدوخ. تستيقظ في زحمة تختلط النساء بالرجال. لا تميز. الأكتاف تتداخل, الأيدي تتشابك والأجساد تتلاحم. منى تحط في أقدس مكان على كوكب الأرض, تسعى بين الصفا والمروة. تردد مبتهلة والدموع تنهمر من عينيها مثل شللات نياكارا:
– ربي اغفر وارحم واعف وتكرم, وتجاوز عما تعلم إنك تعلم ما لا نعلم, إنك أنت الله الأعز الأكرم. ربي أريد أن ألعب بجوار أخي أمين وسط ستار واحد شفاف. أحب النور, أكره الظلمة. ربي ارحم, ارحم, أريد أن ألعب بجوار أخي وسط ستار واحد حتى يتم الدوران بسرعة حول العالم. أكره ظلام الستائر الأربعة وحدود العتبة. أحب العالم بلا حدود لأشاهد النور يشرق في بيت الله وأنا في الرستاق , وأنا في موريال …
منى تصرخ بصوت عال متبرم:
– جدتي انتبهي. سقطت الستائر, سقطت خامية جوهرة.
يسقط أمين و تسقط ثلاث ستائر ويبقى ستار الشبكة ثابتا. العتبة الرخامية البيضاء يكسوها الدم . تصرخ الجدة :
– الدم؟ أنت في حمى الله والنبي. هيا دادا الياسمين أحضري الفلفل الأحمرغبرة ومنديل حياتي أبيض. أسرعي قبل عودة ابنتي, ستندب حظها التعس. ليتها لم تخرج لتدفع قفطان البروكار[7] للخياط اليهودي.
تضع الفلفل الأحمر على جبينه وتشده بمنديل حياتي وهي تردد:
– غدا تكبر وتنسى…
لكن منى لا تنسى. تتذكر بين الصفا و المروة, تهرول و تتذكر. تشتد زحمة الرجال و النساء, يندفعون. يسقط خمار أبيض من رأس سيدة, تلتقطه بسرعة البرق و تسوي أطرافه. يهرول الرجال, تهرول النساء و يشتد الحر. تلمح رجلا يضع بطاقة صغيرة في قب [8] جلابية أختها, لا تفقه شيئا. تذكر كل ما آلمها وهي تسعى بين الصفا والمروة. تراودها شكوك في أمر البطاقات تقول في نفسها :
-أعود بالله من الشيطان الرجيم.
تلتفت وهي تطوف حول الكعبة. يد طويلة تمتد لترفع رجلا من بين الزحمة إلى عنان السماء و يدخل في مروحية صغيرة شبيهة بالطائرة الجوية. يسمع بعد قليل صوت عال في الباحة خارج الكعبة:
–بأمر من خادم الحرمين يجلد هذا الرجل ألف جلدة. يعاكس النساء.
تحكي منى الحدث لصاحبها يقول:
– كثير عشرون جلدة تكفي.
تذكر كل الفواجع التي آلمتها منذ كانت صبية إلى أن أصبحت شابة يطرقها المخاض و تجهض قبل موعد الولادة, الشهر الخامس, يسقط توأمان. تتذكر كل ما آلمها وهي طفلة وهي شابة. تنبذ خرافات جدتها, تدوسها بقدميها. تطوف بأعلى البقع المقدسة من كوكب الأرض. تتذكر لهفتها ورغبتها وحرصها على تقديم أنواع مختلفة من الطعام الشهي لصاحبها وهو برفقة زملائه داخل غرفة الاستقبال. تذكر مرة عندما كانت تعد بعض المقدمات من الأطعمة الخفيفة, الورق من العجين معمر بالجمبري وبالجبن, وباللحم المفروم. تحرص على أن تقدم ما لذ وطاب من الطعام الشهي في أناقة مفرطة. تزين الصحن بورق الخص الناصع الخضرة. تذوق ما يلفت أكله قبل أن تدفع الصحن إلى صاحبها. عندما يشعر بأنها وصلت إلى باب الغرفة يهب مسرعا ويخطف الصحن قبل دخولها, شاكرا. تنصرف بخفة إلى المطبخ, تعد صحونا أخرى أشهى وألذ. تداوم على الدفعات, لا تتوقف حتى تنتهي المسامرة بين صاحبها وزملائه. تشتد الحوارات اللغوية والأدبية والفلسفية. يسمع صوت صاحبها أقوى الأصوات, يسيطر على الجلسات. تدفع الصحون الشهية, يلتهمون كل ما تدفع. يشتد الحوار و يطيب لها سماع المساجلات. تعلم أنهم سينتهون من الكتب إلى النساء. همها أمر النساء. تصيخ السمع. تتجسس. تقف وراء الباب فتسمع صوت صاحبها, خافتا متأدبا وكأنه صوت قاسم أمين. تتسمر في مكانها خوفا وحبا في المكاشفة. الصحن بين يديها, تلتهم ما يشتهى أكله. تلتصق بالباب فتسمع صوت صاحبها يقول لزميله:
– اخجل وتمهل . صاحبتك أجمل. كيف تطارد طالبة سمرتها قاتمة.
منى تعرف أن الطالبة سمرتها عسلية مليحة. كانت زميلتها بالكلية و تحظى بإعجاب الأساتذة والطلبة. متميزة بذكائها ونضالها وأناقتها. سلمتها بالأمس بلطف بطاقة الانخراط في اتحاد طلبة المغرب. من ثقب مفتاح باب غرفة الضيوف, تنظر منى إلى أستاذ مادة الفنون الأدبية. يدعك يديه الصغيرتين الجميلتين غبطة وتهيجا, يرد بصوت شاعري مليح وكأنه يكتب قصيدة حب مثل نزار:
– ما أجمل أن تدوخك وتقتلك امرأة عسلية. عليك أن تراود كل أصناف النساء و أن تطارد من نبشت شغاف قلبك رائحتها السم. تقتلني, تقتلني. أنا أحب من تقتلني وتدوخني و … يا سيدي بسطيلة كل يوم تسد شهوتي. اسمع لي جيدا, ما ألذ الأكلات حارة في يوم ممطر من ليالي مدينتنا فاس, عندما نصاب بصقيع من البرد القارص وترتجف شفتانا, ما ألذ حرارة السودانية. عندما ألتهم صحن العدس بالخليع به سودانية حارة, أنتعش و تسري بجسدي حرارة الحب. أحلم بأنني شهريار, أكتب ألف قصيدة وقصيدة. أكتبها بقصر غرناطة وأنا أشاهد حقيقة راقصات الفلامنكو يدعكن جسدي, ويداعبن خصلات شعري ,وأجملهن تقلم أظافري. تقترب مني ولادة تقرأ لي قصيدة حب . نحن الرجال نحب الغزل أكثر من النساء, ليتهن يعرفن ذلك. الطالبة عسل يلهب جسدي , يلمع جسدها و يحرقني. أعشقها. لا تستحي وهي ترمق لهفي, و تقول لي:
– …. أستاذ.
منى تثبت في مكانها, لا تتحرك. تسمع أصوات الطبيعة, تخاف, يقصف الرعد و تصرخ.الفصل شتاء و البرد قارص, ترفض قراءة الكتب. إنها شابة غرة. الآن فقط في هذه اللحظة تنبذ خرافات جدتها. تلسعها أصوات الرجال , لا تقرا كتبا. يصيبها حزن كبير, تعرف أن كل ما يحكيه الرجال عن النساء هو الطبيعة وما تحكيه جدتها هو التمثال. ليتها تدخل مجامعهم. ليت صاحبها يفضي لها بكل خلجاته. ليتها تعلم ما يعلم. جدتها غبية, لا تعلم, لا تستطيع مكاشفة الطبيعة. كان يجب عليها أن تصرخ عندما كانت تقرصها, القرصة الزرقاء ظلت وشما بفخذها. هي الآن تتألم. ألم هذه المرة مضاعف لأنه يجنح بها إلى الغابة برفقة والدها, تسمع أصوات الطبيعة. تنزع من مكانها و تلحق بأخيها أمين. صوت جدتها يلاحقها:
– أسرعي افركي اللوز …
تهرول بين الصفا والمروة. تتعثر, تختلط الأزمنة, يزداد الرعد قصفا و تسقط حقيقة بباب عتبة غرفة الضيوف. يفلت من بين يديها صحن ممتلئ بالبريوات محشوة بالجمبري, تصرخ, تتعثر. يقول صاحبها لزميله:
– منى تخاف من الرعد. أجهدت جسدها اليوم بشغل البيت. غدا ستختبر في مادة المغني, لا تستطيع حفظه. الليل بطوله والرضيع أسد يبكي بجانبها, لعل ببطنه ألما. أشعر أنها مرهقة. تعلم أن الطلبة يرغبون في دروس سوسير أكثرمن المغني . تحفظ سوسير ولا تحفظ ابن هشام.
منى حصل لها ثقل برأسها, تخاف الكتابة. تسعفها البسطيلة[9] و تدخل المطبخ. تشاهد نور غرفة مكتب صديقتها العراقية من نافذة المطبخ. تشاهد هي الأخرى نور مطبخها تعلم أنها ما زالت تطهو البسطيلة بأوراق العجين الشفاف. منى تحل الأوراق بالزبد حتى لا يخلط بعضها بعضا. تتعجب صديقتها العراقية عندما تعلم أنها ماهرة في أكلة البسطيلة, تهاتفها :
– ألو … يمكنك أن تطهي البسطيلة عارية بلا أوراق, إي والله بلا أوراق ألذ طعما وأنفع للحمية. لا تبددي زمانك في المطبخ.
ترد منى على استعجال:
– أنا لا زمن لي. زمني صاحبي ومكاني المطبخ.
جدتها تفرح. تقول لها عندما تزورها:
– الله يخلي ليك زمانك. الرجل همة وشأن في الدار ولو كان قفة من العظام…
صديقتها العراقية تداوم على الصراخ في وجهها مؤنبة عاتبة ومتبرمة:
– أنت تافهة تفاهة البسطيلة. لا تفكرين في الأشياء الأساسية والمهمة والجوهرية التي تهم المرأة. الطلاق, مثلا أصعب طلاق عندما يكون طلاقا ليست فيه ورقة رسمية, إذ يمارس الطلاق على المرأة دون فسخ لعقد الزواج. هذا يمثل أعلى درجات العنف على المرأة, وقد يمارس الطلاق بفسخ العقد وهذا أخف درجة. لكن مع ذلك تظل الأوراق الإدارية مهمة, إنها تخفي الحقيقة, إنها أوراق شبيهة بالأوراق التي خصفها حواء وآدم لتغطية العري وكساء الجسد. تعلمين أن الأرض يبست بها أوراق شجر الجنة التي كست جسد حواء وآدم أول مرة لقد تحولت الأوراق اليابسة فيما بعد إلى عطر, هو هذا الذي نستنشقه في الزهور والياسمين. ألا تستعملي أن الأوراق في البسطيلة سافلة مدنسة لا عطر فيها. أوراق الجنة عالية مقدسة بها عطر لا ينتهي.
منى استعصى عليها فهم ما تقول صديقتها العراقية. الطلاق, الأوراق… تتابع صديقتها حديثها :
– يجب إعادة تشكيلة البسطيلة بلا أوراق ... تسمعين بلا أوراق. يجب أن تكون كتابتك عطرا لا ينتهي. يجب أن تستفيدي من قراءتك لأدب ما بعد الحداثة, وما بعد جبران, أن تخلقي بسطيلة جديدة, و أن تقتربي من بطن الرجل. البطن يقع في العماء. المهم أن يلتفت إليك العلماء ليغيرون المدونة, لقد أحيلت على النسيان… أين مقالتك التي حدثني عنها : العماء والعلماء ؟ منى صديقتي إننا اعتدنا الكذب. نكذب على الواقع بالخيال. الخيال هو تمثال من الوهم ضد الطبيعة. الطبيعة هي بسطيلة بلا أوراق, بلا أوراق. إننا نعيش باستمرار تواريخ كاذبة من صنع بعض رجال السلطة , يخلقون من الكذب مشاريع ضخمة. أنتن النساء يوهمونكن بتغيير المدونة. يجب عليكن أن تغيرن المدونة بوعي وتبصر…
في غمرة الحديث عبر الهاتف مع صديقتها العراقية إلتلفتت إلى مرشح برلماني يخطب على شاشة التلفزيون . يشد انتباهها الخطاب, تدرك آخره يقول :
– يجب إعادة مراجعة قانون مدونة الأحوال الشخصية لصالح المرأة … يجب أن تشارك في صنع القرارات السياسية والحكومية. يجب … من حقها أن تصعد إلى… أن تغير المدونة. أن تفضح العتمة… كما فضحت مونيكا عتمة مكتب الرئيس. أغلب المكاتب الحكومية تتحول إلى غرفة غرام. يجب فضح العماء, ليفصح العلماء عن الكلام.
تستمر صديقتها العراقية في حديثها:
– ستائر جدتك الأربعة أصبحت خرقا بالية, انزعيها من مكانها, لا تقلدي جدتك. غيري ستائر غرف بيتك. ستار واحد يكفي ويكون من نوع شانطو [10] ,الحرير فيه لامع بخياطة ليستور باطو [11]. أنت مغرمة بالموضة إذا كانت باهظة الثمن. اشتري الستائر من مدينة موريال و خففي وزن أغراضك المحمولة في المطار, ارمي بالكتب إنها ثقيلة. المواقع الإلكترونية مهمة تغنيك عن الكتب.
–حق ما تقولين, لقد بعثت لي بالأمس كاتبة كندية من أصول هندية موقعها وكتبت لي رسالة إلكترونية,تقول فيها: “أنا الأديبة دونا مارشال, وجدت أخيرا ملاذا وانتماءا من خلال رسالتي الفنية. أنا أعزف على الغيثار, أغني, أكتب الشعر, وأيضا مهنتي محامية أدافع عن حقوق الأطفال. شاركت في مهرجان المرأة العالمي, الذي أقامته المنظمات الكندية النسوية بالتعاون مع النساء المهاجرات في جامعة تورنتو, كما شاركت في احتفالات المنظمة المستقلة للمرأة العراقية والإيرانية, وأقوم بعدة نشاطات أخرى مجانا جودا وكرما. عندما اقرأ الشعر وأنا أعزف على الغيثار, يصفق لي الحضور المتعدد الجنسيات بحرارة وحب ويبكون , و أبكي معهم …”
سافرت منى إلى موريال عند ولدها أسد و اشترت الستائر. أسدلت ستارا واحدا على النوافذ. لا عتبة بغرف بيتها. هدأ روعها وبدأت تكاشف الطبيعة. شدت بيد أخيها أمين وهي توجه نظره إلى حسن اختيارها لستار الشانتو من الحرير. ستار واحد يجعلها تطمئن وتشاهد النور يشرق في ببيت الله .
[1] – الخريب : نوع من القماش الفاخر التقليدي , وسمي بالخريب غليا لارتفاع ثمنه ولأن بهد شرائه يخرب مال صاحبته .
[2] – وبر الحديقة : يسمى عند نساء فاس باللهجة الدارجة المغربية * موبرة ديال الجردة * نسبة إلى ورود الحديقة ز وهي من السلع الفرنسية المستوردة . أيام الاستعمار الفرنسي .
[3] – جوهرة : قماش فاخر من الحرير الحقيقي . وهي كذلك من السلع الفرنسية المستوردة .
[4] – الشبكة : من الخيوط الرقيقة المتشابكة تظهر منها كل الستائر , وهي كذلك من السلع المستوردة .
[5] – خامية : هي الستار بالدارجة المغربية .
[6] – الشماشية : ثقب مزركشة بالألوان الزاعية من الجبس تقع في أعلى الجدار محاذية للسقف تنسل منها أشعة الشمس
[7] – البروكار : نوع من القفطان الفاخر .
[8] – قب : خاص بالجلباب يوضع على الرأس .
[9] – البسطيلة : أكلة مغربية فاخرة
[10] – شانتو :
[11] – ليستور :