الأدب النرويجي وقضية فلسطين .


الأدب النرويجي وقضية فلسطين . محاضرة . كلية الآداب جامعة محمد الخامس . مدرج عزيز الحبابي . بحضور الكاتب العام الأول لسفارة مملكة النرويج . 05_ 01_ 2009 .


Le professeur Marocain, Latifa Halim, a tenu deux conférences sur la littérature à Oslo.

05/10/2007 ::
Le professeur Marocain, Latifa Halim, a tenu en septembre deux conférences à l’Université d’Oslo sur « les femmes d’Ibsen d’un point de vue marocain » et « la littérature féminine marocaine ».

Au Centre de recherche pour les femmes et les sexes à l’Université d’Oslo, sous le thème « la littérature féminine marocaine », le professeur Halim a surtout parlé de l’histoire de la littérature féminine marocaine avant et pendant le protectorat français, et après l’Indépendance.

Lors de la conférence « les femmes d’Ibsen d’un point de vue marocain», tenue au Centre d’études d’Ibsen le lendemain, le professeur Halim a analysé la pièce de théâtre d’Ibsen « Une maison de poupée » d’un point de vue marocain.

– « J’étais heureuse d’être dans ce beau pays qu’est la Norvège, là où les femmes ont contribué à l’évolution de la pensée féministe universelle », disait Mme Halim après sa visite à Oslo qui a été réalisée grâce à une collaboration entre l’Université d’Oslo, l’écrivain M. Walid al-Kubaisi, l’Ambassade Royale de Norvège à Rabat et le Ministère des Affaires Étrangères norvégien.

Les conférences ont ét organisées par l’Université d’Oslo avec l’assistance des professeurs Irene Iversen et Gunvor Mejdell, ainsi que M. Walid al-Kubaisi.

Suite à cette collaboration culturelle féconde entre le Maroc et la Norvège, une conférence sur la littérature norvégienne et marocaine est envisagée pour l’année prochaine à l’Université Mohammed V à Rabat.

الفصل العاشر

من العبقرية إلى الجنون

بعد أن قرأت لطلبتها قطعا سردية قصيرة وضعت أوراقا على الطاولة والتفتت إليهم قائلة:

النص الروائي المعاصر تضيع فيه البنية السردية, يتلف شخوصه, يكثر فيه البياض, ولا توجد بداخله علامات الترقيم. تاريخ الرواية وإن ظل مادة أساسية في بعض المحاضرات التي أقرناكم إياها, لأنه ضروري, لكن استنساخه في سياق معاصر غباء منا لأن الرواية بشكلها التقليدي أصيبت بالوهن والضعف والابتذال. قولي هذا لا يعني أنني أتنكر للتاريخ, فهذا كذب لأننا مدينون لكل الحكايات السابقة كألف ليلة وليلة. أريد أن أشير إلى نقطة أساسية هي أن الشيء المهم عندما نتحدث عن الرواية العربية المعاصرة هو أنها ليست تقليدا للحداثة الغربية, مهما بدا من التشابه الظاهر في التقنيات. إن ما نشاهد من التشابه هو نوع من التقارب بين البشرية, التي توغل في أزمنة لا نعرف لها بداية, ولأن الإنسان يظل البطل المؤشر إليه في كل رواية تمرر في هذا العالم الذي مازال مبهما يكتنفه الضباب و العماء. إن هذه الحداثة الواضحة في الرواية العربية المعاصرة هي نتاج أزمنة مخاض. إننا نعيش دائما أزمة رواية غير مكتملة تجهض قبل الأوان. إدا كانت الرواية قد فقدت بكارتها, لعدم الحرص والمراقبة الشديدة على بنيتها التقليدية فمزقت وحدتها الجمالية, فإنها قد اكتملت بالمقابل وأصبحت تمتلك كثيرا من الوعي والتدبر والحكمة, فغدت محكمة البناء. كتابة رواية يحتاج إلى زمن طويل من النضج المعرفي, ولا يحصل هدا النضج المعرفي إلا عندما يرمي الطفل بحجارة فتلمع لمعا شبيها بثغر صبية فاتنة, لكن الحجارة لا تلمع في زمننا هذا.الصبايا لا يبتسمن, ينتظرن الرجال. يكبر أطفال الحجارة وتكبر الصبايا. ينتظرن أن تلمع الحجارة لمعا يشبه لمع ثغر حبيبة عنترة. الصبايا في فلسطين وفي كل العالم ينتظرن ليباركن اللمعان. انتبهوا معي, يجب التجسس على أنوثة الفعل لمعت في القطعة الشعرية ” لمعت كبارقة ثغرك المتبسم” مع الحذر من السقوط في الأنثوية. نصوص كثيرة تخرب ذاكرتنا لكن يجب تطهيرها قبل الكتابة.

تمتد يد الأستاذة فوق الطاولة, تبحث عن رسالة ترغب في قراءتها للطلبة. يسقط القلم على الأرض, ترغب أن يسقط في غور النهر ليتطهر. تقرأ رسالة من باريس إلى اتزر.

شقيقة نفسي… باريس … لا تخافي… مازلت أحتمي بحرارتك, ما زلت دافئا حتى وأنت بعيدة في قريتك الجميلة المغطاة بالثلج الناصع البياض. الثلج لا يفقدك الحرارة, فحرارتك تصل إلى باريس وأشعر بالدفء. ثلج قرية اتزر غير ثلج باريس, هنا الثلج لا يذوب, يظل جامدا ألمسه فأرتج. أرجو أن لا تخافي فأنا أعيش التجربة, وما استطاعت باريس, لا هي ولا غيرها من كبريات عواصم أوروبا, أن تفرق بيننا. حزامك الأخضر بجواري الآن وأنا أكتب إليك. إنني ألمسه عند الخروج من غرفتي وعند الدخول إليها. سألني عنه كثير من الطلبة , سألوني عن سره و تركتهم يعمهون في كثير من الشكوك.

أظن أن كل رواية حديثة تنطلق من خرق البناء السردي المتفق على بنيته في زمن ما, و أن أي رواية في نظري تتسم بميسم الحداثة يجب أن تراقص الكلمات لحد الجنون, وتغازل الحروف لحد الدهشة, لتستوي في جمالية تطمئن لها النفوس. يحصل ذلك عندما تتحرر من مختلف القيود السردية وتكسر الدائرة الشط حية الصوفية: ‘ حي الله … حي … حي ‘.

تمسك برواية تعود تقرأ قطعة سردية أخرى ‘ شيئا فشيئا تبتعد عن الأرض’ . تقول لهم الأستاذة :

فريدة ترقص وتؤرخ لبداية حركة الطالبات المغربيات بالجامعة الفرنسية. ترقص رقصة المتصوفة, ‘اهتزازات’ ترتفع عن الأرض وتبغي الوصول إلى النور الرباني. تشطح, تجن و تعرف بعض أسرار العالم. ترتفع ‘ شيئا فشيئا تبتعد عن الأرض’ لكنها لم تعتقل لأنها تقيم في باريس. لمياء ترقص وتؤرخ لبداية حركة الطالبات بالجامعة المغربية. تنام في المقابر خوفا من الشرطة. ترقص على أنغام أمازيغية و تعتقل.

مرتبكة, قلقة تتابع قولها :

النص الروائي الحديث تباغتك فيه الصور, تفتت فيه الكلمات, و تتناص داخله الرسائل والمسرحيات, حتى المذكرات. لنقرأ رواية مرقونة قيد النشر لسيدة ‘متلن ش’, وهي امرأة هولندية عاشت بالمغرب في القرن الثامن عشر بحاضرة مكناس. انتبهوا عند قراءتكم لمذكراتها , يجب أن تتجسسوا على بعض القطع السردية المضمرة وتكاشفوا الأنوثة في شهوتها, وتقتحمون خلوتها. أصيخوا السمع لتسمعوا نغنغتها, و تتساءلوا عن أشياء خفية استعصى على المرأة الإفرنجية كشفها أثناء الرقص مع أحد أعيان حاضرة مكناس الذي أغرم بجمالها لأنها إفرنجية. فاجأته خلاعتها, عندما كشفت عن ساقيها, وشهرت أنوثتها. رقصت عارية . انحني أمامها إكبارا وتلهفا وقبل يدها . انحلت العقدة من لسانه فقه قولها.

وضعت الأستاذة يدها على سطح الطاولة, فسقط قلم آخر على الأرض. تصفحت أوراقا أخرى, ثم فتحت كتابا وقالت لهم:

من الأحسن أن أتحدث لكم عن جنس الرسائل الذي يتناص داخل النص الروائي المعطوب. أجد أن المرأة توقع رسائلها بحرفين ‘ ف, ب ‘, أنا لا أهتم بالبحث عن الاسم الشخصي والعائلي فهذه مهمة الشرطي, أنا أهتم بالرقص, ربما تكون الراقصة جنت وتوفيت. سأقرأ الآن الرسالة:

عزيزي المهدي

أعود إلى باريس إذن وأنا مدركة أنها تغيرت عما كانت عليه سنة 1965 عندما وصلتها أول مرة. عشت بكل كياني فورة مايو 1968. أكتب إليك هذا الكلام وقد مرت سنتان على إشراقات مايو 1968 وبدأت الأحلام المتوهجة تخف . زميلاتي ينسجن سيناريو عن تحرير المرأة وقد انغمرن وسط دوامة التبر جز محاولات نقده في الوقت نفسه, مثل ما تفعلون وأنا معكم بالتبشير بمجتمع آخر أنا لا أقرأ كثيرا كما كنت من قبل. أعيش متنقلة بين الوجوه والأجساد وعلب الرقص, أرقص حتى الانتهاك على طريقتي.

تلتفت إلى الطلبة مكتظة :

أنبهكم مرة أخرى إلى أن الشيء المهم والذي له قيمة في هذه القطعة هو تيمة الرقص, أرقص.

سجلت الكلمتين على السبورة, ثم التفتت, والطبشورة ما زالت بين السبابة والإبهام, مشدودة و قالت في عجلة:

تيمه الرقص تتوزع في هذا المتن الروائي وليس فقط في هذه القطعة السردية.

سجلت على الفور وفي عجلة أكثر من السابق: ص 15 ترقص, ص 98 ترقص, ص 99 رقصها, ص 99 يرقص, ص 100 ترقص, ص 100 ترقص, ص 100 الرقص, ص 114 ترقص, ص 130 للرقص, ص 133 الرقص, ص 145 رقصاتك, ص 145 رقصات, 145 رقصة, 145 رقصة, 148 سيرقص, ص 148 الرقص, ص 148 يرقصون.

تحمل من فوق الطاولة رواية نسائية تقول لهم:

انتبهوا معي إلى أن تيمة الرقص, ليست مقتصرة على هذه الرواية فقط بل إنها تتكرر كذلك في قلب الجنس الروائي النسائي منذ بداية القرن العشرين. مثلا رواية بديعة وفؤاد, صفحة 39 الرقص, صفحة 40 الرقص, صفحة 262 رقصا,… رقصي , يرد في هذا البيت الشعري و تقول صاحبة الرواية عفيفة كرم:

لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا فالحمام يرقص مذبوحا من الألم.

في المتن الشعري يتكرر لفظ الرقص, في ديوان الفروسية مثلا: ص 27 يرقصون, ص 33 الرقص, ص 63 أرقص, ص 98 ترقص, ص 101 الرقص, ص 106 يرقص.

وفي بعض الكتب السوسيولوجيا يتناص اللفظ. مثلا : كتاب ‘ السلطانات المنسيات ‘: ص 308 رقص, ص 309 يرقص, 311 الرقص….

أخيرا يجب البحث عن مقال كتبه إدوارد سعيد واهتم فيه بالراقصتين بديعة المصابني وتحية كريوكا. ستستفيدون من المقال كثيرا. أجد أنه كان واضح الرؤية, كتب بأناقة وغواية ماهرة عن تيمة الرقص, وقربنا من الهوامش الثقافية الفنية الأنثوية. كان الغرض عنده هو أن ينتشل النص الحقيقي من براثن الجهل وغياهب النسيان, وأعلن عن تفتحه الجنسي وهو في سن السادسة عشرة. يعتبر إدوارد في هذا المقال مناصرا لحركة المرأة في اهتزازاتها. إن النصوص التي كتبها عن الراقصة ‘ تحية كريوكا’ كان يهدف منها هز العالم العربي ليتفتح ويتفجر ويخرج من العماء عندما يشاهد أجمل امرأة ترقص. العالم العربي يحتاج إلى اهتزازات تحية كريوكا.

الرقص من التيمات الأساسية في المنظومة السوسيو ثقافية عند البشر, منذ أزمنة توغل في القدم. سأل زعيم هندي يدعى هاتوي رعيته:

هل تعلمون لماذا يريد الإسبانيون أن يقتلوننا؟ لأننا نملك الذهب.

كان بين يدي الزعيم الهندي سلة مملوءة بالذهب, فابتسم وقال لهم:

هذا ربهم! هيا نرقص له و نوصيه فلعله إذا سمع دعاءنا يأمرهم بأن لا يذبحونا.

ثم رقص الهنود الحمر حتى الإعياء. وبعدها قال هاتوي:

اسمعوني جيدا, سوف أرمي بهذا الذهب في النهر لأنهم سوف يقتلوننا بسببه.

وكذلك فعل ولما علم الإسبانيون بقصته شنقوه وقتلوا شعبه.

تنقر بسبابتها فوق خشب الطاولة وتذكر:

بسم الله الرحمن الرحيم.

تقلب صفحات بعض المراجع, مشتهية البحث عن تيمة الرقص. في صمت تقرأ بعض العناوين. الطلبة يوشوشون, تنقر مرة أخرى بسبابتها على الطاولة, فيعود الصمت, وتفتح كتابا, تقرأ:

ص 18 رقصهم, ص 180 يرقصون, ص… هذين الكلمتين من كتاب ‘رحلة ابن بطوطة’, دار التراث العربي, بيروت, طبعة 1968. يقول ابن بطوطة “…وطلب مني كبيرهم أن آتيه بالحطب ليوقدوه عند رقصهم, وأخذوا في السماع ومن ثم دخلوا في تلك النار فما زالوا يرقصون.” ص 104 يرقص , ص 104.

تقرأ عنوانا آخر:

‘التنبيه المعرب’ السفر الأول, تأليف الحسن بن الطيب اليماني الخزرجى المكناسي ثم المراكشي, تقديم وتصحيح محمد لمنوني, الرباط, مطبعة المعارف الجديدة, ط 1, 1994, الباب الرابع, في أخبار الجزائر. السبب في وصولنا لها ما فيها من البهجة والرونق وكل ما تشتهي: “… ورقص يكون للرجال مع النساء, فكل رجل يرقص مع امرأة”. ص 92 الرقص, ص 92 رقصهم.

“تحفة أهل الفتوحات والأذواق في اتخاذ السبحة في الأعناق, وبعض الآداب اللائقة بالمكرمين بصحبة أهل حضرة الإطلاق بفضل الكريم الخلاق….. ويجوز الرقص بدليل فعل الحبشة في المسجد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم ينكر عليهم وكان رقصهم بالوثبات والوجد … “. فتح الله ابن الشيخ سيدي أبي بكر البناني, مصر ( بشارع محمد علي ) , مطبعة التقدم بدون تاريخ.

أذكركم مرة أخرى بأن الشيء المهم والذي له قيمة عندنا في هذه المحاضرة هو الرقص. المرجع الأساسي هو كتاب ‘ مذكرات حكمت فهمي’ لأنها تكشف فيه عن أسرار العلاقة بين السادات والمخابرات الألمانية, إعداد حسين عبده, ط 1, 1990, كتاب الحرية 25, ص 5: “كانت الراقصة حكمت تتربع على عرش الرقص الشرقي جميلة فاتنة, وهي صورة للجمال العربي الأصيل . ذات جسد رائع, حركاتها متجانسة, ورقصها ممتاز’.

الكاتبة غادة السمان نشرت أخيرا كتابا يحمل عنوان ‘رقصة البوم’.

الأستاذة تؤكد على جميع الطلبة أن يتتبعوا كل الأخبار المتعلقة بالرقص. تقرأ عليهم خبرا نشر اليوم بصحيفة القدس 8 – 10 – 96, ‘الذعر يسود أوساط الراقصات المصريات بسبب حكم قضائي يمنع حضانتهن لأطفالهن…’

تقترب من الطاولة, تمسك ديوان ‘رقص مشتبه به’ وتدسه في المحفظة. تتأهب للخروج و تتساءل في صمت رهيب: جنت الطالبة ف- ب؟. الجنون غواية يشبه الرقص. تمسك بخشب جنب الطاولة و تقول متلعثمة:

يجب البحث عن الهامش الأنتروبولوجي في الثقافة العربية. يجب أن نفترض معنى داخل النص المغيب. يجب مساءلة هذا المعنى على أساس أنه حقيقة. مثلا تيمة الرقص في المتن الحكائي؟ الرقص في كل مكان؟ الرقص في الشقة المغلقة بالرباط؟ الرقص في باحة عرس تقليدي بدرب الحرة بمدينة فاس؟ الرقص في مسلسل الراقصة والطبال والحوار بين رجل سياسة وراقصة, عندما تقول نبيلة عبيد لرجل السياسة أنت ترقص بلسانك وأنا أرقص بكفلي؟.

يجب أن نسقط علامات الاستفهام ونكاشف الحروف في غليانها حتى نصاب بالدهشة ونصرخ. إياكم أن تخلطوا بين نبيلة عبيد الممثلة ونبيلة إبراهيم الناقدة .

تقول مازحة:

ربما شتمكم زوجها عز الدين إسماعيل.

يلذ لها الحوار مع الطلبة, لا تبرح مكانها وتقول لهم:

الرقص مهم وتقام له المهرجانات… ‘ رقصة المضلة’ بلندن ‘ بوبي أي’. الراقصة الأمريكية ‘سارة جيسيكا باركر’ أصبحت تؤدي تمريناتها على موسيقى الروك أندرول المسجلة من شعر جلال الدين الرومي.

يالتبس على الأستاذة الأمر وترغب بأن تعطي ملخصا للمحاضرة قبل أن تنصرف إلى قاعة الأساتذة. تتأخر في خروجها من قاعة المحاضرة, تذكرهم بأن الطالبة ‘ ف . ب ‘ المقيمة في باريس هي المحور الأساسي لهذه المحاضرة, وهي بداية الحركة النسائية الرائدة بالمغرب والمقيمة بفرنسا, ونعتمد فيها على الرقص. مرتبكة تقول:

انظروا معي ص 56 “سنة 1946 – أو 1947 لم يكن عمر الهادي قد تجاوز الثامنة, ذات صباح مشرق, ربما بداية الصيف امتلأت الأزقة والأسبله

استوقفتها كلمة أسبله, خفت صوتها وسجلت اللفظ على السبورة. التفتت قائلة:

الأسبله جمع, هل تعني السبل؟. إذا كان يعني المؤلف بالأسبله الأزقة فالجمع هو السبل, ومفردها السبيل. ومها جاء ” جنان سبيل ” , وإذا كان يعني السقاية حسب اللفظ بالدارجة المغربية وهي التي نسقي منها الماء فالجمع هو السبالات ومفردها السباله. إذا عدنا إلى كتب التاريخ نجد أن السلطان قايتباي أحد سلاطين المماليك في مصر قام ببناء السبيل عام 1498 ميلادية في مدينة القاهرة الفاطمية. يقدم السبيل الماء البارد للعابرين وأبناء المنطقة المحيطة بشارع الصليبية قرب شارع المعز, ويضم قسم من السبيل مكانا لتربية مجموعة من اليتامى الذين يقيمون فيه. يتكون السبيل من بئر ترفع مياهه إلى صهاريج بواسطة ناعورة, ويتم تبريد المياه عبر إغلاقها من علو مرتفع على رخامة تحمل منتصف غرفة السبيل فيندلع رذاذها عاليا في الهواء, فيتم تبريده ويجمع في حوض للشرب. يعتبر سبيل قايتباي أكبر سبيل في القاهرة , ويليها سبيل عبد الرحمن في شارع المعز, ثم سبيل محمد علي باشا… أسبة غير عربية. سبيل جمع سبل.

تتابع قراءة النص الروائي المقرر

“… اصطف الرجال والنساء والأطفال… في انتظار موكب المخازنية الذين يطوفون ‘الضب’ عبر مسالك المدينة كلها, تأديبا له على ما اقترفه في حق فتاة من عائلة معروفة كانت ضمن الفتيات الرائدات في الالتحاق بالمدرسة واللاتي خرجن سافرات…’

تقول لهم:

من المحتمل أن تكون فوزية هي زميلة البطلة ‘ ف . ب ‘ التي تعرضت إلى الاغتصاب عند انصرافهما من المدرسة. قادها عنوة إلى روض قريب حيث عذبها قبل افتض

اضه إياها بوحشية وفظاظة…. لقد كانت المرأة زمن الحماية يدافع عنها بغيرة من الحركة الوطنية, الآن أي حركة وطنية و أي علماء يقفون مع المدونة الجديدة.

يجب أن نؤرخ لبداية الحركة النسائية بالمغرب مع ‘ ف . ب ‘ سنة 1965 عندما حصلت على الباكلوريا وغادرت البيضاء إلى باريس. وننتبه إلى أن أختها أكبر منها اسمها مها رحلت قبلها, غادرت البيضاء إلى باريس 1958. المهم عندنا هو بداية إقامة الطالبة المغربية في البلد الآخر.

أبو أسد يريد أن يؤِرخ معها لهذه البداية يصر على أن ‘ ف . ب ‘ بداية للحركة النسائية خارج الوطن. يحدثها عن زميلته في السور بون ‘ ف . ب ‘:

صادفتها في باحة جامعة محمد الخامس بكلية الآداب, الرباط شتاء 1970. بعد أن درست شهرين… عزمت على العودة إلى باريس… قالت لي: سأعود إلى باريس وأنا مدركة أنها تغيرت عما كانت عليه سنة 1965 عندما وصلتها أول مرة, واعية بما أحدثته إقامتي من تبديلات لدي. أخيرا تجن, تفقد مدركاتها العبقرية وتعود إلى المغرب لتحتمي وسط عائلتها بالبيضاء.

كان الطالب المجد في باريس كلما شعر بالبرد القارص يجتاح جسده يكتب رسالة إلى منى بالقرية الجميلة. الطالب المجد في أروقة السور بون يحكي عن ‘ ف . ب ‘:

كنت أشعر أنها أكبر مني سنا, ربما لأنها أكثر مني إشعاعا, ومع إشعاعها الفكري الثاقب والسابق لأوانه, انسحبت من زمالتها. لا أعرف لماذا, ربما أوعزت ذلك لكبر سنها المحتمل, ربما لأنها تدخن أكثر مني, ربما لأن وجهها شاحب ومخيف, ربما لان يديها باردتان ترتجفان, ربما لأن جسمها نحيف دون شحم دافئ, لا يغري بالليل, ربما لأنها تقرأ ألف كتاب وكتاب في كل ليلة, وربما لأنني عندما أقترب منها وألمس خدها برفق أشعر بالبرد يجتاح جسدي. بسرعة البرق ابتعدت عنها, دخلت مورقة و اشتريت أوراقا ورسائل لأكتب رسالة حب.

“من باريس إلى اتزر

فاثنتي …”

تلح الأستاذة على تذكير الطلبة بأن التيمة الأساسية هي الرقص والحركة النسائية و التغيير. أحد الطلبة يرفع أصبعه و يقول للأستاذة:

لماذا لم يتزوج المهدي ب ” ف_ب ” ؟ رقصا معا أيام الجمر لكن كانت وحدها ترقص على الجمر لم يحصل التغيير جنت بعبقريتها . ما أجمل أن يطلب رجل امرأة للزواج وهي ترقص على الجمر فتشغل بالأولاد, وتعجن لهم الخبز, وتعصر لهم البرتقال و… و لا تنتظر الكوطا. كان على المهدي أن يكرهها على الزواج…

ترد ‘ ف . ب ‘:

“أشياء كثيرة كانت مهيأة في أعماقي لأصير المرأة العانس المغامرة الظمآنة المتحدية للحدود و المواضعات…

يقول الهادي:

” امرأة لا تعترف بغير ما يستجيب للرغبة. تتكلم بصوت مرتفع لتفهم ذاتها, وتنفذ إلى ذوات الآخرين, تناقض رموز التسلط, والوصاية في مجتمعنا وفي كل المجتمعات, تحلم بأن تجسد نموذجا آخر مغايرا لنموذج المرأة – الدمية “

تقول ‘ ف . ب ‘:

” لغيري أن تراجع نفسها وأن تميل إلى نصائح الأهل, فترتد إلى طريق الصواب وتنجب البنين والبنات, أما أنا فلا مناص لي من متابعة التجربة مهما كان المآل.”

الأستاذة يرعبها ما آلت إليه صاحبة هذه الأفكار الجريئة, وتحمد الله وتشكره أن جدتها لم تكن تحفزها على الدراسة. جدتها زهور كانت صائبة ومحقة, تتهجى الحروف دون أن تفقه معنى للكتب الفلسفية ودون أن تغرق في التجريد والتحليل. كانت تبحث عن الصور عندما تمسك بكتاب و تقرأ الحروف تاء, حاء, راء, ياء, راء. ما هي بقارئة للكتب, لكن تقرأ الحروف. أخوها عبد العزيز حمل معه في حجته الأولى مع والده, عندما عرج على القاهرة, كتاب تحرير المرأة, ليهيج به زملاءه بالقرويين, وكل زملائه يترجون استنساخه على عجل. الأم للا فضول يقلقها اللفظ الذي أصبح يتكرر بين زملاء ولدها عبد العزيز و تقول له:

كفى من المرقة لقد تميصت .

كانت لا تفقه شيئا من مساجلات زملاء ولدها بالقرويين, تخلط بين المرقة والمرأة. سيد العباس هو الآخر بأحد أركان الغرفة يلعن صحبة ولده إلى الديار المقدسة, ويلعن مروره على القاهرة. يحدثه صديقه ويقول له:

هل قرأت يا سيد العباس حديث الشفا بنت عبد الله.

يجيب سيد العباس على الفوز غاضبا:

هذا حديث يدل على الجواز.

يرد بصوت خافت:

لا تعلمهن حروفا ولا تسكنهن غروفا. الكتابة خاصة بحفصة رضي الله عنها.

في عجلة يقول:

هذا قول فاسد لوجوه منها: أن الأصل عدم الخصوصية, فلا بد لمن يدعي مثل هذا القول من دليل, وأين الدليل هنا؟.

للا فضول لا تقرأ حروفا. ‘ ف . ب ‘ غاوية قراءة وتنتظر من يهديها ألف كتاب وكتاب. الطالب المجد في باريس يزور زميلته رفقة صديقه, الشاعر الأسمر ذي اليدين الصغيرتين المكتنزتين الجميلتين, في شقتها بباريس. تمدهما بقطع من الحلوى التي أحضرتها معها من المعمل الذي تشتغل فيه, لا تتحرج في ذكر ذلك. تصف المعمل, تلعن تعب الأشغال اليدوية والحركة المستمرة, و تذكرهم أنها شبيهة بجدتها صانعة الحلويات المعلمة بنيسة. كعب الغزال عندما تعجنه لا يجف زبده. تبدأ مساجلاتها الفلسفية والأدبية والغاوية, مزهوة تبرز قوية منتصبة على عرش المعرفة, يخنقهما تميزها المنفرد و إشراقة فكرها المتوقد واتساع معرفتها. يحرجهما توقدها, يتقزمان, يغتاظان ويتبرمان من المساجلات. الشاعر يرجو رضاها يقترب منها يقرأ قصيدة و يذكرها بما صنع الطلبة أمس بالفيلسوف. كانت ضمن الطالبات المشاركات في ثورة مايو ‍1968 المنتفضات في وجه السلطة الثقافية. الطالب المجد يحكي عن أستاذ كان عميدا بكلية الآداب بنا نطر, وكان حجة في مسائل التأويل والفلسفة, هجم عليه الطلاب ودسوا رأسه في سطل. في لحظة ضحكت ‘ ف . ب ‘ ضحكة طويلة وقبلتهما معا قبلة حارة دون وجل.

التقت بالطالب المجد أول مرة قرب شارع سان جيرمان. اعتادت مجالسته كانت تحكي له كل أمورها حتى العاطفية, لا تتحرج. سألته ذات مرة عن أستاذ بالجامعة بالمغرب فقال لها:

إنه أستاذ وسيم وأديب ممتاز. نشرت له بعض النصوص في مجلة الآداب البيروتية فأصبح منذ ذلك الوقت أديبا مرموقا.

الأستاذة تقول للطلبة:

قد يأخذكم الظن إلى أن ‘ ف . ب ‘ شخصية وهمية من صناعة السارد وكذبة من الخلق المتعارف عليه في سجل التاريخ, لكن ‘ ف . ب ‘ غير ذلك. إنها تؤرخ لبداية الحركة النسائية للطالبات المغربيات خارج الوطن والمقيمات بفرنسا, إنها ليست من بلاد الشام مثل مي التي جنت وعلى إثر جنونها رحل والدها إلى أرض نائية بجبال الأطلس المتوسط مازالت تحمل اسم بوميه. ‘ ف . ب ‘, قبل أن تجن, تعرف عليها الطالب المجد الذي كان يعبر معها أروقة السور بون. تعرف عليها, دخل معها المطاعم الطلابية و رافقها بإرادتها اختيارا. يحكي عنها حكايات تفوق الهادي الذي حدثتكم عنه سابقا يقول:

نوع آخر من النساء يخرق كل المجالات الفلسفية والأدبية. ألحق إليها لأقرأ كتابا تحمله بيدها, فأزداد انبهارا. كانت تبدو عليها مظاهر النعمة, تعلم من حركاتها ولباسها أنها بنت عائلة كبيرة. تعرفت عليها خلال إقامتها في باريس ما بين سنة 1967 – 1970, وكانت ترغب في مجالستي. أنا كنت أشعر أنها تقتنص حداثة سني وقلة تجربتي مع النساء. عيناها عسل متعب, وجهها شاحب مكتظ, وفكرها حاد مخيف. كل شيء فيها غريب. أشعر بالبرد واكتب رسالة إلى القرية القريبة من بوميه, فأشعر بالدفء والحب يسري في عروقي, أطمئن.

منى تعلم بخبر معهد باستور بالدار البيضاء وشغب الدكتورة حنان. علمت من صاحبها أنها كانت صديقة ‘ ف . ب ‘ وأنهما شاركا معا في ثورة مايو 1968. منى معجبة بحنان لأنها تقف وتواجه الوزير, فلم يعد الوزير كوزير شهريار.

الطالب المجد يعرض عن مجالستها مرة أخرى. هي معجبة به, تراوده فيبتعد أكثر. يشعر بالبرد, البرد قارص , فيعبر جبال الأطلس المكسوة ثلجا, ينتعش ويكتب رسالة حب. يحلم, يكتب من باريس إلى قرية قريبة من قرية بوميه 10 – 3 – 1968

فاثنتي …

منى بخلاف ‘ ف . ب ‘ لا قدرة لها علي ارتياد الحلقات النسائية بجامعة فنسين. تقلقها لغة ‘هيلين سيكسو’, لا تفهم شيئا. صديقتها إيرين تجهد نفسها لتفسر لها ما معنى الأنثوية, تقول لها يجب التمييز بين أنثى أنوثة أنثوية. لا تفهم شيئا, لا شيء يفهم من كلام سيكسو. تحضر مرة أخرى صحبة صديقتها الفرنسية حلقات علم النفس النسائي, لا تفهم. تطلب منها أن تصطحبها إلى كوليج دوفراس لمشاهدة رولان بارث, لا تمانع. صباحا يوم الأربعاء الساعة العاشرة, ودعت صغارها أسد و آية بالمدرسة ثم التحقتا على عجل, كانت القاعة غاصة بالحضور قبل دخول الأستاذ رولان بارث وكان الصحفيون والطلبة يتزاحمون على قاعة المحاضرة. قالت لها صديقتها إيرين:

باقي القاعات غير مزدحمة و توجد بداخلها أجهزة الميكروفون لمن يريد سماع المحاضرة في هدوء.

أجابتها منى على الفور :

لا, أجلس أرضا وأستمع وأشاهد رولان بارث. أنا لا أريد المحاضرة, أريد مشاهدة رولان بارث.

كان رجلا نحيفا شاحبا, لكن المهم عند منى أنها تراه حقيقة ولا تقرا كتبه. لا ترغب في فهم ما عصي فك حروفه, فصديقتها إرين كانت تستجيب لرغباتها. كانت تحكي لها عن المساجلات الفكرية التي كانت تقام في شقة عم أبو أسد حتى منتصف الليل ببورت إيطالي, و أنها كانت تسمعهم يرددون عناوين لكتب في نظرهم مهمة لرولان بارث, وبعضهم يحملها متباهيا مفتخرا. كانت منى رفقة أسد وآية تحضر المساجلات الفكرية ثم تعود آية نائمة على كتفيها و أسد يجره والده شبه نائم. في مرات كثيرة لا تصاحبه وتظل تنتظر عودته متأخرا. كان يجالسهم في مسامرتهم طالب نحيل الجسم وطويل القامة, لم يعد يختفي مرة واحدة لأنه يدرس في باريس آمنا مطمئنا. هدأ روعه في الغربة, وبدأ ينتقل بين أرجاء دار المغرب, يتكلم في السياسة ولا يعتقل.

منى داخل القاعة تسمع رولان بارث ولا تفهم شيئا مما يقوله. تنظر إلى جسمه النحيل المخيف, هو بخلاف الجسم الذي شاهدته رفقة صديقتها الإيرانية. الرجل العجوز كان أكبر سنا من بارث لكنه كان يبدو قوي البنية. انتظروا خروجه, كانت منى رفقة أسد وآية وصاحبها, صلوا صلاة الظهر, وشربوا الشاي مصحوبا بأكلة إيرانية خفيفة, ثم عاد الشيخ إلى سكنه , فصرخ النساء وبكين, ترجين لقاءه وهن يرددن:

– درخواست ديدار .. الله أكبر .. الله أكبر

فهمت منى من كلامهن أنهن يطلبن مقابلته. وافق على ذلك, فنزعن الأحذية, وضعوها جنبا, و وتدفقن في شغف يقبلن يده بكل حب وإكبار. انفتحت أسارير وجهها وهي تنظر إليه حقيقة. كان يجلس على سجاد إيراني من الحرير اللامع, المصحف والأدوية بجانبه. بدأ بعض النسوة يطرحن عليه أسئلة باللغة الفارسية. ظل العجوز يجيب وقد وهنت قواه والأسئلة تنصب عليه دون توقف إلى أن حضرت سيدة, يبدو عليها أنها زوج ابنه, فطلبت منهن أن يعجلن بالخروج. وقفت عند الباب وكان يبدو عليها عدم الانشراح لهذه المقابلة.

بعد انتهاء رولان بارت من محاضرته حكت منى لصديقتها إيرين عن أمر زيارتها لآية الله الخميني . كانت بيدها صحيفة لومند الفرنسية وبدأت تقرأ عليها:

للغرب أن يخاف صعود نجم أية الله الخميني؟.

يعودان إلى البيت, فتدخل منى إلى المطبخ وتعد شايا أخضر. أبو أسد بالبيت يحدث صديقتها إيرين, يقول لها:

إن العرب لم يقدموا بعد للغربيين كشف الحساب لكي يفهموهم بالأرقام وبشكل عقلاني تماما أن الحضارة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية إلى الآن مدينة للعرب لا على الصعيد المالي فقط, ولكن على الصعيد العقائدي أيضا. العرب لا الإسرائيليين أو الأتراك أو الفرس هم الحاجز الحقيقي ضد تقدم الشيوعية. العرب هم الذين يمنحون الأمان والطمأنينة للبحر الأبيض المتوسط, لأنهم يسيطرون على شاطئه الجنوبي وشاطئه الشرقي والبحر الأحمر, لأنهم يملكونه بأكمله, إنهم ما يزالون أكبر المستهلكين وأقدرهم على الدفع…

عندما كان يتحدث أبو أسد مع إرين كانت منى تتذكر حديث الأمس رفقة سيدة ألمانية كانت جالسة على مقعد بحديقة ‘ اللكسبمبورغ ‘, وكان بالقرب منها أسد وآية يلعبان. السيدة الألمانية تقربها سنا, فصل ربيع, السائحة في عطلة, تنتعش تدفئها شمس باريس وتقول لها:

Ah. so ein some!

لم تفهم لغتها لكن علمت من قولها أن الربيع في باريس رائع ومنعش, والشمس دافئة. هي لا تعلم أن شمس المغرب أجمل. تحدثا طويلا عن الشمس و أغرتها منى بالزيارة إلى المغرب. علمت أنها غير متزوجة ولا مثقفة ولا تعنيها الأمور الفلسفية والأدبية ولا الدينية فقد تحدثا طويلا. كانت بسيطة بلا عبقرية ولا جنون. منى في المطبخ تبتسم وتتذكر. تبادلا العناوين وواعدتها بزيارة إلى المغرب الصيف المقبل. كانت تحمل بيدها حقيبة خضراء, تنظر إلى الشمس طويلا, تدهشها الشمس الدافئة, تنتعش, وتغرق في صمت شبيه بصمت للا فضول. علمت عنها أشياء كثيرة دون أن تفقه لغتها الألمانية, لأن القاسم المشترك الكوني بينهما أعظم من اللغة.

في عجلة تجمع الأستاذة أوراقها المبعثرة من الطاولة وتدسها في محفظتها المختلطة. تعلن عن نهاية المحاضرة وتقول لبعض الطلبة المحلقين حولها:

الحصة القادمة نقرأ الماء في الرواية العربية.

منى تستمع إلى محاضرة أستاذة مغربية تدرس بالجامعة الفرنسية, الموضوع ‘منطق الرياضيات’ 13 – 10 – 96 مساءا. كانت سيدة بجوارها تخط بقلم أحمر على أوراق غير منتظمة, تلتفت منى إليها وتسألها:

أنت فوزية.

تجيبها ضاحكة كالمجنونة:

لا, أنا درية شفيق. درست في السور بون ونلت شهادة الدكتوراه ثم عدت إلى القاهرة واقتحمت البرلمان. كما أصدرت بيانا لوكالة الأنباء الأجنبية هذا نصه: ‘ أمام الظروف القاسية التي تتعرض لها مصر قررت بحزم أكيد أن أقوم بالإضراب عن الطعام حتى الموت وذلك ابتداء من الأربعاء فبراير سنة 1957 بالسفارة الهندية بالقاهرة, من أجل استخلاص حريتي الخارجية والداخلية. بصفتي عربية مصرية, طلبت من السلطات الدولية العمل على انسحاب القوات الإسرائيلية فورا من الأراضي المصرية, والوصول إلى حل عادل ونهائي لمشكلة اللاجئين العرب. كما طلبت من السلطات المصرية رد الحرية التامة للمصريين جميعا رجالا ونساء, بانتهاء الحكم الدكتاتوري الذي يسير ببلادنا إلى الإفلاس والفوضى. إني إذ أقدم على التضحية بحياتي بتحرير بلادي أتحمل وحدي مسؤولية هذا العمل, وقد تركت زوجي الدكتور نور الدين رجائي وطفلتنا, فإذا مسهم سوء فإني أحمل الضمير العالمي مسؤولية ما قد يصيبهم’

وقعته باسمي درية شفيق.

تتكلم درية (ف. ب.) بعصبية مسرعة وتقول:

هل قرأت تعليق جريدة ‘ ديفلت ‘ الألمانية التي أعلنت عن قضيتي. جاء في هذه الصحيفة: ‘ رفعت امرأة من وادي النيل لواء المقاومة, إنها درية شفيق و هي في السابعة والثلاثين من عمرها وزعيمة المنظمة النسائية بنت النيل. ‘

جحظت عينا الشابة المجنونة وقالت مؤكدة:

أنا درية شفيق. أنا رغم كل شيء أحب جمال عبد الناصر. عبد الناصر رفع رؤوس المصريين بعد انكسار طويل.

انتهت المحاضرة من إلقاء محاضرتها, صفق لها الحضور ولم تفهم منى شيئا. انصرفت المحاضرة رفقة أختها ‘ ف . ب ‘ وهي شبه مجنونة, وانصرفت منى رفقة أختها فدوى. كانت الأمطار تسقط بغزارة وهي تفكر في الرقص.

.

الفصل التاسع

السياسة فيها الفلوس

حمدة رجل من أهل فاس, مشبع بالثقافة الفاسية, وكل حديثه عن فاس وأحيائها وشيوخها. مرة يتحدث عن مولاي أحمد الكتاني, ومرة عن فلان وفلان من علماء الدين أو المتصوفة. كان هؤلاء ترد أسماؤهم على لسانه بمناسبة حكاية أو حادثة , ومن ذلك حديثه عن الفقيه ابن هشومة. كان هذا الفقيه من علماء القرويين, وكان هيابا للموت لا يريد أن يذكر أمامه, وإذا ذكر ينتفض الفقيه ويحل فيه شخص آخر أرعن متفرعن, ينتفض على الذاكر, ويخنقه ويلطمه و يدوسه و يركله حتى ينال منه ما يشفي غليله. ذلك ما أصابه من حمدة, إذ علم قصته فتعرض له في بعض الأزقة , وكان شابا والفقيه كهلا, فلما ذكر له الموت,انقلب الفقيه إلى وحش ثائر وطارد حمدة في أزقة مدينة فاس ولم يفلت منه إلا بالجهد الجهيد.

كان حمدة يحمل في شيخوخته آثار جمال رجالي بارز, وكان يحكي للكبار من أحفاده قصصا تمثل درجة التسامح التي كان يتحلى بها. كان ينزل إلى رتبتهم, فيكشف لهم دخائل نفسه في شبابه, وحوادث مما وفر في ذهنه عن أخلاق العهد القديم. لم يكن يمتنع عن حكاية قصصه الشخصية العاطفية, كقصته مع الشابة التي حجزته في أسطوان بيتها, وعرضت عليه أن يتقدم لوالدها طالبا الزواج منها , بمال قدمته له, فوعدها خيرا, وفر هاربا. كان يجاوز ذلك إلى حكاية ما تحول الحواجز الأخلاقية السائدة دون ذكره, وكان لا يرى بأسا في حكيه لتنوير أحفاده. لم يكن لذلك يمتنع عن ذم العهد القديم بمقارنته بالعهد الجديد. قال يوما لأحفاده:

كان الشذوذ منتشرا في الزمن القديم لكن الأبواب كانت مغلقة. لا تلوموا أنفسكم أنتم خير حالا من القدماء.

ثم يمضي في تفصيل القول عن حالات عرفها, يستوي فيها رفيع الشأن بوضيعه في ارتكاب الذنب. كان حمدة منفحا وكانت مطوية التنفيحة الفضية لا تفارقه, وكذلك المنديل الأحمر الذي يصاحب كل المنفحين. حكى يوما كيف انتقل من النشوة, التي كانت منتشرة في المغرب بين الناس جميعا شبانا وشيوخا, إلى التنفيحة. كان معظم المنتشين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, الحقبة التي شهدت شباب حمدة, ينتشون بالعفيون. كان حمدة كحال أقرانه يحمل في جيبه قطعة عفيون, كانت قطعة سوداء, وكانت العادة أن المنتشين يقضمون بعضا منها. حكى حمدة أن أمه كانت كلمتها لا تنزل, حلفت عليه أن يترك العفيون, وخيرته بين سخطها ورضاها فاختار رضاها وترك العفيون إلى التنفيحة. كان حمدة إذن لا يفارق المطوي الفضي العامر بالتنفيحة, وكان لا يفارق أيضا عمامته البيضاء. رغم زواج ابنته بالفقيه الشريف ذي العمامة المزركشة بالأصفر, فإنه لم يتبعه في ذلك, وإن كانت ثقافته الفاسية الدينية الشعبية العميقة تفرض عليه تنزيله من نفسه منزلة سامية. احتفظ بعمامته البيضاء ولم يتأثر في كثير ولا قليل بصهره بل ظل مخلصا بما تلقفه من المتصوفة الدرقاويين, ومن علماء القرويين الذين كان يغشى مجالسهم في المسجد . طبعه المتسامح لا يعترف إلا بالقليل من المحرمات الكلامية فكان لا يرى حرجا في أن يحكي لأحفاده قصصا عن الجسد وأفعاله وأحواله. من ذلك قصته عن ليلة الدخول وما ينبغي أن يراعيه الرجل في الملامسة, وما ينبغي أن يفعله وما ينبغي أن لا يفعله بجسد المرأة. وقصته عن الرجل الذي دخل بامرأته ثم فر هاربا, فلما سألته أمه تبين لها الأمر, فجاءته بالعسل وأمرته أن يمرر فيه سبابته ففعل, فلما رأى العسل يعود كما كان تبين له أن المرأة كذلك, فعاد إلى زوجته فرحا مبتهجا.

كان حمدة غلاما عند وفاة السلطان مولاي الحسن بن محمد بن عبد الرحمن. كان يذكر تلك الوفاة ليؤرخ بها ميلاده, فقد سمع الناس يتناقلون الخبر في أزقة فاس, فهرع إلى أمه في الحمام وأخبرها, واستدل من دخوله إليها في الحمام أنه لم يكن بلغ الحلم.

لم يكن حمدة كثير الكلام عن أحد غير أمه التي كان بها اثر كبير عليه. لم يكن يأتي على ذكر أبيه إلا لماما وبصورة أساسية, وربما كان السبب أن أباه لم يعمر ومات شابا وتركه لأمه.

لم تتحسن حاله المالية بعد السرقة التي تعرضت لها تجارته في الجديدة, ولم تسؤ كذلك حاله النفسية, والسر في ذلك ذكره الدائم لله, واعتقاده الخير فيه, ورضاه بالقضاء والقدر خيره وشره. حين زوج بناته الثلاث, تنازل لهن عن داره واكتفى ببيت واحد في أعالي داره. لم يكن حزينا لذلك, وكان يخفف من حزنه أن فاس في ذلك الوقت كانت تضم أشتاتا من الناس ذوي المصائر المشابهة لمصيره. كان يرى في أزقتها كثيرا من الكهول والشيوخ بجلابيبهم وسبحتهم, وكان يرى عليهم أمارات الكآبة والحزن الشديد لا يفهم معنى لها إلا بتقدم العمر وما يحمله إلى الناظر من تفاسير. كانوا جميعا فرائس أزمات, بين مسروق كحمدة وبين ذي تجارة خاسرة أو مال مضاع أو متورط في بيعة.

فلة, ابنة حمدة, صبية جميلة,عيناها بلون السماء, صافية بصفاء بحر الأبيض المتوسط. لا تتوانى في مد نسبها من جدها لأمها إلى أهل تلمسان الذين حطوا بفاس فارين من الاستعمار الفرنسي, ولا تفتأ تفاخر بأن أهلها أكثر أناقة وتحضرا من أهل فاس. تستيقظ فجر كل يوم مشرق جميل, تصعد إلى السطح تسقي غرس الحبق , يتطاول إليها نظر شاب فقيه عالم, يرمقها بغمزة حب و يقول لها:

– للا زينت الحبق وترشو, لله عدلي شحال من ورقة في طرفه.

ترد عليه:

سيد لفقي يا عالم, يا قاري كتاب الله, اشحال من نجمة في السما, واشحال من حوتة في الما, واشحال من مرة اقرتي كتاب الله؟.

يتحابان ولا يتزوجان, تتزوج عالما حقيقيا ومناضلا وجيها في حركة استقلال المغرب, يترك لها البنين والبنات ويزج في الزنزانة. الجد حمدة يلعن السياسة وما جاء منها, لأن صهره الطاهر غيب من أجل الوطن في السجون. تجن فلة, وينتهي الحب. لم تعد تسقي الحبق. اختل عقلها لأنها كانت تنتظر الجواب عن سؤالها:

اشحال من نجمة في السما واشحال من حوتة في الما واشحال من مرة اقرتي كتاب الله؟

الفقيه, العالم الحقيقي صاحب فلة, لا تجرأ أن تسأله كم مرة قرأ كتاب الله؟. كان يزهو بقوة منكبيه وشموخ جسده, وتبجيل سكان فاس لغيرته على وطنه, وفصاحة بيانه وقصائده التي تهز همم الرجال للدفاع عن الوطن. لم يكن له من الوقت ما يجعله يختلي بصاحبته, ويجلس الساعات الطوال يسأل عن همومها النفسية. هم الوطن يستولي عليه بالليل والنهار.

منى تتساءل هل الزواج المبكر اغتصاب؟. وهل زواج الصبية الجميلة برجل ابنه الأكبر في مثل سنها جريمة؟. بكت فلة يوم زواجها وذبلت أوراق الحبق.

يطيب لمنى أن تقرأ مذكرات حميها, تدهشها بعض الأخبار التاريخية. صاحبها يحدثها عن بعض منها, عندما يراها تقرأ ها يقول لها:

اعتقلوه, اعتقله الفرنسيون فرموا به في جب عميق وكانت سنه تتجاوز الثلاثين, السبب أنهم اتهموه بتحريض قبائل الأطلس على رفض قوانين ‘إزرف’. لما ألقي في الجب, صار يقرأ القرآن العظيم, إذ كان يحفظه عن ظهر قلب, فسمع المراقب الفرنسي صوته وهو يقرأ القرآن في الليل, واستدعى كبير حراسه وسأله:

ألم أقل لكم أن تنزعوا منه أوراقه وكتبه وكل شيء, ما عدا ما يستر به جسمه؟. فقال الحارس:

إن هذا الرجل عندنا يمثل صنفا من الناس يدعون بالعلماء, وإنه لا كتاب بيده ولا أوراق في جيبه, يحفظ القرآن داخل قلبه.

كتب المعتقل في مذكراته أنه حين خرج من الجب, بعد ستة أشهر, خرج بأظافر اكبر من براثن الأسد, وبلحية وشارب لم يعهد لهما مثيل. ذكر أنهم كانوا يقذفون إليه في الجب بخبز يابس, وكان لا يعرف ليله من نهاره, ربما عرف المساء. كان المراقب يأمر بتدويش الجب حتى يزداد بردا ويلقى حتفه ويموت, لكنه كان قوي البنية شديد المراس. خرج من السجن, وطردوه من مدينة خنيفرة, فالتحق بقرية الحاجب, واستدعاه مراقبها المدني وقال:

لا يقيم في بلدنا من طرده جيراننا.

عاد إلى أمه بمدينة مكناس, فكان فيما حكاه يمر بالشارع والزقاق, ويرى في أقصى الطريق بعض أصحابه ومعارفه فيلوون وجوههم, وينقلبون إلى طريق آخر خوفا من أن يراهم الفرنسيون معه لأنه وطني. وقد كسب من هذا العمل الوطني مرض الروماتيزم. قال له أحد أبنائه يوما:

لماذا لم تعتزل السياسة وتهتم بشؤونك الخاصة كحال جدي؟.

طرده من الدار وقال له:

أتظن أني فعلت ذلك من أجل الخبز والشواء, فعلت ذلك لأني أومن بالسياسة .

منى لا تعرف الجد الذي ضرب به الصبي المثل, إنه حمدة. عاصر ما قبل الحضور الفرنسي في المغرب, وعاصر الحضور نفسه, وعاصر ما بعد الحضور. كانت هذه الحوادث التي تهم السياسيين والوطنيين لا تعنيه في قليل أو كثير, بل إنه أبى أن يزوج ابنته للطاهر, لا لكبر سنه, ولكن لأن فضوله السياسي لم يعجبه في غالب الظن. انقلب بعد ذلك حمدة إلى موقر كبير له, فكان يقبل يديه, وحين سأله حفيده يوما:

لم تقبل يديه ؟

قال:

أقبل يديه لا لأنه وطني ومناضل, أقبلها لقربه من النبي صلى الله عليه وسلم.

في مثل قوله هذا يتضح لنا أن حمدة كان بعيدا كل البعد عن السياسة, بل يكره ويلاتها وما خلفته من تعب لبنته فلة التي كان يتركها الطاهر على حين غرة ويزج به في السجن. حمدة يكره السياسة والفتن وكل ما له علاقة بالنضال والوطنية. مرة فاجأ أحفاده, والمعتقل الطاهر في السجن, فقال لهم:

أسرعوا إلى البندقيات. ‍‍‍

فقالوا له:

أي بندقيات؟.

فقال:

لقد رأيت والدكم قبل اعتقاله بقليل يدفن بندقيتين. جاء يحملهما فحفرنا في وسط الممر الأسطواني مكانا لهما ودفناهما فيه.

أبو أسد يحكي لصاحبته :

حصل المغرب على استقلاله وانطلق قوم في فاس يطاردون أتباع طريقة دينية سموها طريقة الزيتوني. كان أتباع هذا الرجل ملتحين جميعا, وكان من سوء حظ حمدة أنه كان ذا لحية بيضاء, على أساس ما كان يظن أنه سنة نبوية, فلما علم بذلك أحفاده صاروا يخوفونه ويزعمون أنهم سيرشدون المطاردين إليه. صار في حيرة من أمره, أيحلق لحيته التي صاحبته سنينا أم يتركها ويتعرض لاعتداء المعتدين؟. وفي نهاية الأمر تركها وسلم أمره لله.

كان حمدة ورعا تقيا مواظبا على الصلاة. في شبابه كان من أتباع الطريقة الدرقاوية, وكان يتبرك بمساعدة شيخه الجليل على المضي في الطالعة الصغرى بفاس من عين علو إلى باب بوجلود. هذا الشيخ الجليل كان يحتاج إلى استراحات متتابعة في الطالعة الصغرى, ولهذا نصحه بعض العلماء الثقاة بالزواج. تزوج شابة حسناء, فصار لا يحتاج إلى مساعدة حمدة, وأصبح قادرا على مجابهة صعوبات الطريق المشهور في مدينة فاس.

أبو أسد اعتاد أن يحكي لصاحبته بعضا من زمن طفولته ويقول لها ضاحكا:

حدث يوما لحمدة وهو شيخ هرم, ما يصح أن يوضع في حظه التعس من المصائب في الدنيا, ذلك أنه كان يستعد في صبيحة كل يوم للصلاة, وكانت امرأته قد اعتادت أن تضع المرجل على التنور ليلا, حتى تقيم الشاي صباحا. استيقظت باكرا وضعت المرجل على الأرض ودخلت إلى المطبخ لتضيف قطع الفحم في التنور, و بينما كان حمدة في طريقه إلى بيت الماء ليتوضأ حمل المرجل, وذلك لأنه كان شغوفا بالاغتسال وحب الطهارة بأصولها, فقد أراد أن يطهر أعضاءه الخاصة وهو مقرفص, فلما صب الماء على عضوه الأوسط, قفز صارخا وهو شيخ كبير, فانطلق يغوت, فكنت لو سمعته تحسبه صراخ طفل قوي الصوت أوذي في أعز ما يملك. استيقظت بناته الثلاث المتزوجات, ضحكن بعد أن مر ألمه بسلام واطمأنن على سلامته, وفي استحياء أصبحن يحكين قصته تفكها.

للا فضول شيخة تجلس بباحة المولى إدريس, تحكي لها أم فلة عن صاحبها حمدة وفضيحته أمام بناته, يضحكان معا. للا فضول أشد تيقظا وانتباها, هي أيضا مبتلية بالطهارة لكنها حذرة, لا تصب الماء إلا بعد أن تتيقن من حرارته. تحترس تصب الماء قليلا على كف ظهر يدها اليسرى ثم تصب الماء بكثرة, فيغمر الماء كل جسدها. السيدة فضول تبالغ في طهارتها, وتغار النسوة منها. الفوطة المكررة أطرافها بالحرير الناصع, تأخذها من فوق كرسي خشبي, تلفها على جسدها, تنتعل قباقب الخشب, وترتدي ملابسها على مهل, تمشي على أطراف بنانها, تلامس الأرض حذرة, تخاف أن يستيقظ سيد العباس ويشتت رزمتها وتضيع حبات عقد القفطان. هادئة مطمئنة تقضي أغراضها في خفاء وصمت. أجمل لحظاتها مع بزوغ فجر يوم جديد, صاحبها يستسلم لنوم دافئ قرب دادا الياقوت ويحلم بعوالم ألف ليلة وليلة, هي تذكر و يسمع لها صوت ناعم:

انعم صباحك يا ضوء الله

يا الشارق في بيت الله

قل لحبيبي رسول الله

يقف على خروج روحي لله.

للا فضول تتوضأ للصلاة, قطرات الماء تتساقط من أطرافها, لا تنشف الماء بمنشفة, تعرف أنه سنة. تفقهت على يد والدها, تحب الماء أن يغمر جسدها.

يقول أبو أسد لصاحبته:

روى لي جدي أن أول إنسان حط في أمريكا من المغرب يدعى ‘الزموري’. روى له الخبر أحد أصدقائه من التجار, وذلك عندما كان يتاجر في الجديدة. علم عنه أنه في زمن بعيد جدا, يعود إلى موجات العبيد التي كانت تؤخذ بالقوة من السواحل الإفريقية إلى أمريكا, وصل جد جده الزموري مع العبيد عام 1528 إلى أمريكا.

منى لا تتعجب لمثل هذه الأخبار التي يحكيها لها صاحبها, لأنها تعرف أن التواصل البشري عرف بين القارات مند زمن بعيد. سبق أن أخبرها والدها متفكها بأن الرسام بيكسو من جبال الأطلس المتوسط واسمه الأصلي بوقسو. لحق بالاسم تغيير من جراء نقله من الأمازيغية إلى الإسبانية , جد جد بيكسو أمازيغي قدم مع طارق بن زياد فاتحا جزيرة الأندلس.

منى تحكي لصاحبها باستمرار عن الظلم الذي تعرضت له البشرية, تقول له أن الله سبحانه وتعالى يسلط على كل ظالم ظالما أقوى منه مثل ما فعل بصدام. تخبره أن صديقتها الكندية الجزائرية قالت لها:

ولاة العثمانيين الطغاة ارتكبوا ما حرم الله في بلدي الجزائر. فقد امتد طغيانهم إلى رضيع امرأة ألقي في طنجرة ماء يغلي حتى تحلل لحمه, فاشتكى أبو الطفل أمام قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة, فرأى الأب النبي ص في المنام وهو يقرر استيلاء الكفار على أرض الظلم, فكان من ثم الاحتلال الفرنسي للجزائر. الاستعمار الفرنسي هو نتيجة منطقية للاستبداد وطغيان ولاة العثمانيين .

يحكي لها صاحبها عن طفولته وتردده على حي الرميلة لزيارة جده الملتحي, الذي لا يفقه في علم السياسة. منى تتابع على قناة الجزيرة ما حصل للعراقيين في الرميلة, تجد نفس الحي يوجد في فاس و مراكش, وبغداد. تتعجب و تتساءل عن المشترك اللفظي؟. تسمع عن المذبحة التي أثبتها تحقيق الصحفي الأمريكي ‘سيمون هيرش’, والتي ذكر فيها أن وحدة عسكرية أمريكية فتحت النار على فلاحين عراقيين رفعوا الراية البيضاء, وتم قتل عشرين شخصا من بينهم. ورد في تحقيق أن أحد الجنود الأمريكيين ذكر أن الفلاحين قد استسلموا, ولكن القيادة الأمريكية أمرت بقتلهم. بالرغم من التناقض والتعتيم الذي ورد في التحقيق بهذه القضية, فقد جاء في التحقيقات أن الجنرال ‘ماكافري’ أمر بقتل الأسرى والمستسلمين العراقيين في الرميلة, واستشهدت التحقيقات بما حصل من قتل في قاعدة جالبية الجوية. الجنرال ‘ماكافري’ شن انتقادات عنيفة على الوثائق التي فضحت أفعاله التدميرية للإنسان في العراق, والتي قد تكون عن رغبة شخصية أو عن إخلاص لتنفيذ أوامر الإدارة الأمريكية. لقد حصل الجنرال ‘ماكافري’ على وسام رفيع لبطولته في تلك المذبحة قبل أن يصبح مؤهلا لموقع المستشار للرئيس الأمريكي كلينتون الذي خلف الرئيس جورج بوش المدبر الرئيسي لمحرقة حرب الخليج.

أبو أسد لا يفتأ يلعن دراسته التي درسها بالصدفة لا بمحض إرادته, فقد كان يحلم أن يكون خبيرا من خبراء علم التعذيب والحرب ليكاشف حقيقة البشرية. ازداد الحلم كبرا فعندما كان الطاهر يغيب في السجون كان ولده يحلم بالمغرب . إدوارد سعيد كذلك كان يحلم, فقد كان والده جنديا في الجيش الأمريكي يقاتل من أجل الولايات المتحدة الأمريكية وكان هو يحلم بفلسطين. ما أجمل أن يحلم الأطفال رغم التناقض القائم بين آبائهم ؟. ما أجمل أن يحلمون بركوب عربة مذهبة من خشب الأرز و يقطعون بالقوارب بوغاز جبل طارق.

منى لا تحلم بعربة ولا بقارب لأنها لا تفقه في علم السياسة , تدخل غرفة صاحبها و تقرأ مسوداته 7- 3- 1993 “… يتكلمون عن الخصوصيات بعد تأسيس الأوطان. ما كان يطوف ببالهم شيء عن الخصوصيات الوطنية التي يتحدث عنها فلاسفة ومجانين السياسة, يقول دوكول والفرنسيون عامة: إن فرنسا خالدة قديمة كانت مع كون الكون. يتكلمون كما لو لم يؤسسها أحد, وكما لو أن الفرنسية صفة ملتصقة بأرض ثابتة لا تتغير حدودها منذ أن كانت لها حدود, الحدود وهمية كاذبة”.

منى تحلم بوطن بلا حدود. يعود صاحبها إلى البيت متأخرا, تدخل إلى المطبخ, يلحق بها ويحكي لها عن أحداث طفولته, يرغمها على السمع, هي منشغلة بإعداد أكل شهي ‘القدر الحمام باللوز’, يلتصق بها ويقول:

… سنة 1958 كنت صغيرا يافعا وحدث أن سكن والدي بمدينة وجدة, فانتقلنا إليها وأقمنا في بيت أرضي بالمدينة الجديدة. في الشارع الخلفي كان يوجد منزل لأسرة لا تبدو عليها صفات خاصة, فكانوا كالمغاربة شكلا وحالا. تعرفت على أحد أبنائهم, وكلمني وكلمته بالعربية الدارجة, فوقع في ذهني أنه مسلم مثلي. كان لا يختلف عني في اللون والشكل, كان قصير القامة ودودا, وكان ينظر إلي كما كنت أنظر إليه, فلم يكن يبدو عليه أنه يعدني من جنس أو قوم آخرين. كنا نتجول في البقع الأرضية الخالية من الجهات المحاذية لمنازلنا, وكنت فرحا بمصاحبته, ولاسيما أني كنت على ألم لمفارقة خلاني بمدينة مراكش التي أقمنا فيها قبل انتقالنا إلى وجدة. وذات يوم قال لي:

هيا معي لنشتري الخمر.

فقلت له مندهشا:

ماذا؟ نشتري الخمر؟ الخمر حرام.

قال لي:

لا, ليس حراما, نشربه في منزلنا.

لم أصاحبه إلى ما أراد, وعدت إلى دارنا متسائلا قلقا. يشربون الخمر في بيوتهم ما هذا؟ أليسوا مثلنا يحرمون هذا الشراب الذي يدعى خمرا في بلدنا؟. علمت فيما بعد أن ما يسمى خمرا يختلف من بلد إلى بلد, ومن طائفة إلى أخرى. علمت أيضا من خليلي الوجدي أنه ينتمي إلى طائفة غير إسلامية, وعلمت أنه كان يظنني من طائفته, وكنت أنا أيضا أظن أنه من طائفة المسلمين. في علاقة الصداقة التي ربطتني معه قبل افتراقنا, كان المسيطر اعترافنا معا بانتمائنا إلى الطائفة البشرية.

انتقلتا إلى دار أخرى, ثم انتقل والدي ونحن معه إلى تازة و ثم إلى فاس. بقيت قصة هذا الصديق الصغير, الذي لم تجمعني معه إلا الصفة الإنسانية.

صاحبها يلذ له أن يحكي عن طفولته. منى ترغب أن يجيبها عن بعض تساؤلاتها, تقول له:

لماذا فضلت أم جندب شعر رجل آخر على شعر صاحبها. هل هي ناقدة؟. لماذا طلقها؟.

يجيب متبرما:

هذا كلام يحتاج إلى قراءة طويلة لمكاشفته ….

تسأله مستفسرة:

هل تقبل الموت؟.

يجيبها:

هذا سؤال جاهلة, ألا تعلمي أن الله خلقني قابلا للموت؟.

كنت لا أعلم.

إذن فاعلمي ذلك الآن ولا تطرحي أسئلة الجهال.

منى يعجبها أن تطرح الأسئلة العصية على صاحبها. غالبا يلوي ظهره وينصرف. لا يجيب إلا عن الأسئلة التي يرغب في أن تدمغ في ذاكرتها والتي يستحسنها. تعرف أنه يحيط الشعر العربي القديم بهالة من القداسة ويحفظ غالبه. يبدو منتشيا عندما يردد بعض الأبيات بقافية منغمة جميلة.

منى معجبة بصاحبها و تداوم على قراءة مسوداته, لأن بعض هذه المسودات تفصح لها عن الكتابات الرجولية غير المدونة. يشتد إعجابها عندما تقرأ نصا يكاشف الحقيقة. تقرأ المسودات وتتذكر أحاديث خالتها, فهي الأخرى كانت معجبة بصاحبها رغم شدة بخله عليها واستهزائه برحلاتها المستمرة إلى مستحم ‘مولاى يعقوب’. تفخر في حفل النساء ببنتها من الرضاعة عايدة التي تحبها أكثر من بناتها, و تحكي عن نضال أخ بنتها من الرضاعة فتاح, منوهة بشجاعته:

اعتقلوا فتاح.

كان شابا وسيما, دخل السجن بالقنيطرة, وهرب راجلا إلى حدود تطوان, ثم عاد إلى الرباط متخفيا بزي نسائي. مرة عرج على باب سكن والده فوجد بالباب أخته عايدة, لم تعرفه, أعطاها ريالا وانصرف. ظلت عايدة تذكر دائما الريال والمرأة الملثمة بلثام أسٍود. عندما كبرت زارته يوما بمنفاه في باريس وقال لها:

تذكرين امرأة أعطتك ريالا وأنت واقفة بباب الدار, إنه أنا أخوك فتاح.

عايدة يعز عليها فراق أخيها, تزوره صيف كل سنة, غربته قاسية, وتنتظر عودته إلى وطنه. منى تتذكر أحاديث خالتها التي كانت تزور مدينة الرباط بكثرة. أبناء أختها كانوا ينتظرون عودتها إلى مكناس لتحكي لهم بإعجاب عن ابنتها من الرضاعة وجمالها الفاتن:

كنت عند ابنتي عايدة, إنها قطرة عسل في قلبي. منذ اليوم الذي وضعتها أمها في حجري, عندما كنت جالسة على حافة صهريج مولاي يعقوب, وأنا أزداد يوما بعد يوم حبا لها. أحن دوما إلى زيارتها. إنها نجمة تتللا وتفتن جمالا, سواد شعرها واتساع عينيها يعجبني, إنها شبهي. أذكر أول يوم أمسكت فيه حلمة ثدي بسهولة و فرحت, لقد كانت جائعة. أمها غاصت داخل الصهريج منتشية مبتهجة, تزغرد و تصلي على النبي, أرضعتها وكان بجواري ولدي رضا يمسك بيدها.

خالة منى مسكونة بماء مولاي يعقوب وتعتقد فيه البركة و الشفاء, بخلاف أم عايدة التي تعتقد بكرامات سيدي احمد بن إدريس, وتقسم أنه يبعد الشر والعين ويطيل العشرة بين الزوجين. خالة منى لا تعرف شيئا عن كرامات سيدي أحمد بن إدريس, أم عايدة تحكي لكن لا تغريها الحكايات بالزيارة, إنها تحب الماء أن يكون مصحوبا بالعري داخل صهريج مولاي يعقوب. الماء عندها يشفي عندما تستحم المرأة و تغوص في عمقه. للا زهور تعنف ابنتها لكثرة ترددها على صهريج مولاي يعقوب وتقول لها:

أنت تشبهين عمتك البتول, هي كذلك شديدة الاعتقاد بكرامات مولاي يعقوب. تعتقد فيه الشفاء و تغرف الماء وتصبه عليها .

يلتقيان في الصهريج. العمة تحدث ابنة أخيها في ود وحنان, تقول لها:

كيف حالك مع زوجك؟.

أللا عمتي يقتلني بخله, عشرة ريال آخذها بالسيف لأذهب إلى الحمام, أما مولاي يعقوب فيقع عليه الطلاق والفراق. يردد دائما أنني أتلف ماله وأضيع له رزقه وهو رجل لا ثروة له.

أللا بنتي أبوكم الذي رباكم في الخير كان لا يعرف الاقتصاد, أنشأكن في بسط ورغد من العيش. اسمعي يا بنتي هذه الحكاية التي كنت أحكيها لأخي خوفا عليكن من عسر الزمن, خصوصا عندما كنت أرى إسرافه عليكن وما تتمتعن فيه من رزق وفير. إن قنطرة بن طاطو بفاس بناها رجل من هذه المدينة اسمه بن طاطو وجعل عجينها من تراب وبيض, ولم يدخل في بنائها ماء ليبرهن على كرمه وغناه.

ولما سألتها عن السبب أجابت:

أولا أسرة بن طاطو كانت قبل انقراض نسلها من أغنى أسر مدينة فاس. ابن طاطو هذا حصل أن دخل يوما على بنته فوجدها قد أشعلت قضيبا من الوقود, وكانت العادة أن يجزأ القضيب في ذلك العهد فيشعل أجزاؤه واحدا بعد آخر عند الحاجة إليها, ولم يكن الوقود كحاله اليوم قضبانا رقيقة. غايته أن ابن طاطو انزعج حين رأى من ابنته أنها لا تبالي بالاقتصاد في استهلاك الوقود فنهرها وأدبها بالضرب وثار لذلك ثورة عمياء. انتقل الحدث من فم إلى أذن حتى وصل إلى علم وجهاء البلد, وكانوا أصدقاء له, وكانوا يعزون المرأة فعابوا عليه أن يضرب ابنته ضربا مبرحا. كانت العادة أن أهل فاس يبالغون في الإحسان إلى المرأة, واعتبر عمله منكرا واتهموه بالبخل والتقتير. كان رد بن طاطو أنه ما اشتد عقابه لابنته بخلا ولكن تربية واحتراسا من الزمن, فقد كان يخاف على بناته أن يتجه بهم القدر إلى عصمة رجل فقير فيكن وبالا عليه بما اعتدنه من تبذير. قد أراد بن طاطو أن يعلمها الاقتصاد, فضربها, وأقسم فيما بعد أن يبني قنطرة يكون عجينها من بيض الدجاج, تظل مثلا يضرب عن شدة الكرم والسخاء وحتى لا ينعت بالبخل من طرف أصحابه. وكان في ظاهر المدينة ممر ماء ليس عليه جسر فأمر البنائين فبنوه كما شاء له. الرجال يا بنتي قد يقل مالهم وقد يغيبون في السجون ويتركون صغارهم في حاجة إلى الأكل.

اعتقل الطاهر في السجون, وظل حمدة في شظف من العيش لا يستطيع أن يعول بنته وأولادها. يلعن حمدة العجوز السياسة التي لا ناقة له فيها ولا جمل. يشتد عسره ويزور صهره الطاهر بالسجن متذمرا. يقبل يديه لا لأنه وطني لكن تبركا منه لأنه ولد النبي.

منى تسأل صاحبها:

عجبا, حمدة متذمر من الطاهر المهووس بالسياسة والسجون. كيف يكره السياسة؟ السياسة فيها لفلوس.

الفصل الثامن

إحسان

شقت الباخرة عباب البحر الأبيض المتوسط, وانطلق وفود الحجاج من جبل طارق. السيدة رقوشة تحكي لحفيدتها إحسان:

– أحرمنا من القدس …

أي لثغة حلوة رقيقة عندما تنطق السيدة رقوشة باللكنة التطوانية, القاف ناعمة والدال خافتة تكاد تختفي مع السين , تؤكد أن الإحرام كان من القدس.داخل الباخرة كانت السيدة رقوشة تظهر بزي أنيق شبيه بلباس الإسبانيات. ترتدي الفلدة التي اشتراها لها صاحبها من غرناطة, وتخفي جوانبها بالحائك الذي يسترها من الرأس إلى القدمين. تتغلف كالمومياء, وتضع تحت عينيها قطعة قماش بيضاء صغيرة مطرزة تستر الجزء الأسفل من وجهها. في بعض الخرجات المهمة تلبس سروالا ينتهي بثنايا تصل إلى الأعقاب, تلك الثنايا تسمى ‘الطوازن’ وهي من قماش أبيض. دادا امباركة ساهرة على الاعتناء بلباسها أثناء الرحلة. رقوشة مشغولة بالرضيع حفيظة التي سفرتها معها وهي في الأربعين يوما من ميلادها.

الحاج التطواني يتحدث مع صديقه سيد العباس:

الآن بعد أن ودعنا الحج نستطيع أن نتمتع بالسياحة في مصر.

يقترب من زوجته وهي تحضن صبيتها, ويمسك بيدها برفق لتنزل من الباخرة, أما دادا امباركة فإنها تحمل بعض الأغراض الخفيفة تنزل متثاقلة . عبروا من بر الجزيرة إلى مصر, بعد أن رحلوا من القدس إلى المدينة ثم إلى مكة و جدة. هاهم يحطون الرحال بالقاهرة, بعد سفرة قصيرة من مدينة السويس. لم تكن وسائل الاتصال قد انتشرت لتنقل إلى جهات العالم ما يجري في القاهرة من أحداث, وما يتطور فيها من فن وثقافة وغناء ورقص, لكن كانت هناك وسائل أخرى, كالكتب والصحافة المصرية التي نشأت قبل العشرينات بكثير. كانت الأخبار وإن قلت تصل إلى مدينة تطوان وسائر مدن المغرب. الحاج التطواني كان يحلو له وهو يشتري بعض الكتب في القاهرة أن يحمل لصاحبته مجلة لملئ فراغها . هو يعلم أنها لا تحسن القراءة ولا الكتابة, ورغم ذلك حمل لها إلى الفندق مجلة ‘فتاة الشرق’.

صاحبة الحاج التطواني آثرت أن تلبس البلوزة دون الحائك, على شاكلة نساء القاهرة. عزم الحاج على مصاحبتها إلى المسرح لمشاهدة إحدى المغنيات. سبق أن شاهد في حجه السابق منيرة المهدية وسعاد محاسن, والآن يسمع عن مغنية اسمها أم كلثوم. يدخل إلى كازينو برفقة سيد العباس و صاحبته التي كانت تجلس على كرسي ذهبي الإطار, وتمسك بيده خوفا وانبهارا. تشاهد شابة أنيقة, جالسة تنقر على آلة موسيقية ‘العود’, ترتدي البانطون والكوفية وتضع العقال فوق رأسها , تظهر بمظهر الفتيان. إنها المطربة أم كلثوم . الحاج التطواني عندما حج مرة أخرى منفردا دون صاحبته شاهد أم كلثوم وقد استبدلت ‘العود’ بمنديل, ونزعت البانطون والكوفية والعقال, ولبست زيا جديدا ‘غوب’ مذيلة لونها وردي, عارية الأطراف والظهر, المطربة صدرها بارز, واقفة تمسك بمنديل يبعد خجلها ويسعفها على الغناء. رقوشة بكازينو البوسفور, وأم كثوم تصدح بصوتها العذب. سيد العباس منتشيا, يردد بصوت خافت :

مالي فتنت بلحظك الفتان…

سيد العباس يلتفت إلى السيدة رقوشة منبهرا بجمالها وأناقتها, فترتعش وتزداد تمسحا بجوانب صاحبها. سيد العباس يحدق فيها شبقا, وصديقه الحاج التطواني مشدوه إلى أم كلثوم, يصفق بحرارة. يطارده شبح السيدة فضول. يذكر أنه باغتها وهي في ‘البرطال’ تنقر على’العود’ الذي ورثته عن جدة جدتها من غرناطة. كانت تحافظ عليه, تعتز بقدمه وتحمله برفق وحنان. سيد العباس لا يعرف كيف تعلمت النقر على العود. بمجرد أن يباغتها تنقر على’العود’, تهرول إلى المطبخ حافية القدمين, يلاحقها صوته الأجش, ترتبك وتحرك التنور بقضيب الفضة, تزيح الرماد وتحتفظ بالجمرات, ثم تدس الرماد في قعر التنور, وتضيف الفحم, فتشتعل النار بسرعة البرق. تضع قضبان الكباب فوق التنور لتستوي على النار جيدا, وتمد سيد العباس بقضبان الفضة المليئة بلحم الكباب. سيد العباس يحنو على العود, يخاف أن تمتد يده إليه. العود فوق السجاد, مرة مرة يحاول أن يلمسه, يرغب أن ينقر نقرات خفيفة عليه لكنه يخاف أن ينقص العود من شموخه , يخاف أن ترمقه للا فضول بغتة فتخجله نظراتها ويضيع كبره.

سيد العباس لا يوجد ببقعة البرطال, سيد العباس ببقعة كازينو البوسفور و للا فضول في البرطال تنقر على العود بهدوء وطمأنينة. صاحبها يؤدي مناسك الحج, وهي تتألم ويخفق قلبها عندما تتذكر أن سيد العباس كان مختليا في المصرية يسمع خرافات دادا الياقوت, إنها مسنة عفنة لا قدرة لها على أن تبرح مكانها, لكنه يحبها يحن إليها وهي في سنيها الأخيرة. تحكي له حكايات ألف ليلة وليلة, وتسمع للا فضول ضحكاته الحلوة الرائقة, فتغتاظ وتتألم, وتكتوي بشحم الكباب وهي بقرب التنور الذي يتوهج ببريق الجمر الملتهب. تضع قضبان الكباب في الصحن, تخاف عليهم من الاحتراق, وبين لحظة وأخرى ترش التنور بقطرات من الماء, فيخمد اللهب. سيد العباس يحب شي الكباب على درجة من الحرارة مضبوطة , للا فضول أصبحت ماهرة ومقتدرة في الشواء . اللهب يتصاعد من فوهات التنور, فتمسك بيدها قضيب الفضة مخلوعا, وتدفع من قعر التنور الرماد, لتغطي الجمرات كي لا يحترق الكباب, وتعود إلى البرطال تحمل صحن الكباب فيقول لها:

-أحضري الزبد الطري وضعيه فوق الكباب. بادري كوني ذكية, وافطني إلى رغباتي بسرعة البرق. أنت غبية وحركاتك بطيئة.

سيد العباس يشاهد أم كلثوم و يطارده شبح للا فضول. ترتبك, تتعثر خطواتها بين البرطال والمطبخ, وتخاف. العود فوق السجاد, ترغب في أن تحمله لتنقر نقرات شاعرية مليئة بالحب. سيد العباس يشتد وقاحة وغلظة وقسوة, يحذرها. تبادر وتخفيه في ركن بعيد. بصدق سيد العباس لا يقدر على أن يصيب آلة العود بمكروه, يعلم أنه أعز ما تملك للا فضول في عالمها الحزين. يقسو عليها, لكن يخاف أن تموت غما وكمدا. يحبها بعمق البحر.

صديق سيد العباس التطواني استغرب صمته, فلكزه بمرفقه حتى كاد يقع من مقعده وقال له:

أين أنت ساه يا سيد العباس, إياك أن تكون وصلت إلى مدينة فاس. للا فضول بخير.

يجيب بهدوء, وعلى غير عادته الشرسة:

أشعر بألم في رأسي.

رقوشة تسر في أذن صاحبها:

اسمع صوت ابنتي حفيظة تصرخ, أخاف عليها. دادا امباركة منشغلة بأغراضها الخاصة. أريد العودة سريعا إلى الفندق.

رقوشة عجوز مسنة جالسة في الشرفة تطل على البحر. تدخل منى سكن جارتها إحسان بمصطاف مرسى المضيق, فتجد السيدة رقوشة تحكي وعيناها تلمعان ذكاء, تتذكر شبابها وهي دون العشرين سنة. منى يعجبها أن تصغي إليها وهي وتمد النظر إلى البحر فتشاهد أضواء الجزيرة الخضراء متلألئة. عندما يكون البحر هادئا, تبدو لها شواطئ إسبانيا بأضوائها الخافتة كأحلامها اللامتناهية. تحلم أن تتمكن يوما من وضع نوع من المجامع العامة لموسوعات نسائية , تحفظ فيها جميع خصوصيات المرأة, منذ عهد فلاسفة الإغريق إلى يومنا هذا. تحلم بأن يتيسر لهذه المجامع النسائية النشر قريبا. تحلم أن تجمع أصناف التعذيب الذي تعرضت له البشرية منذ حقب موغلة في القدم إلى كوانتانامو. تحلم برحلة منظمة من مونتريال إلى كوبا رفقة ابنتها رهام. تحلم بتدوين أشياء كثير ة لم تكتب, مثل الأصوات التي تظل مبهمة, بكاء صوت رضيع صاحبة امرئ القيس, الذي لم يتيسر له يوما ناقدا مكاشفا يصل إلى حقيقة النص الشعري عنده , ودلك لأنه لا يقدر على سماع صوت الرضيع. ” لما بكى انصرفت له بشق…. ” البكاء صوت لا نرغب في سماعه . هل نسمع نحن الآن صوت بكاء آت من كوانتانامو؟. سميح القاسم يسمع أصوات المعتقلين بكوانتانامو.

منى يستوي نظرها على امتداد البحر, بصوت خافت تردد:

يجب أن نتستر على امرئ القيس, لا حق لنا في فضح الأموات. الشعراء لا رقيب عندهم. يكتبون قصيدة فاجرة ولا يقدمون للمحاكمة.

رقوشة بالكازنو لا تسمع صوت أم كلثوم, بل تسمع صوت الرضيع حفيظة, لا تعرف أحلام يقظة؟. رقوشة تسمع صوت الرضيع, وتتأهب للعودة إلى الفندق. لا تحب سهرات الكازينو بالقاهرة, ولا سهرات الفلامنكو بغرناطة, هذه الأشياء لا ترغب فيها . يقترب الحاج التطواني من سيد العباس وقد غرق في أحلام اليقظة, يقول له:

الله … الله لو شاهدت أسيد العباس رقصات الفلامنكو بغرناطة لطار عقلك وانصرفت عن خرافات دادا الياقوت.

رقوشة تشرف على البحر, أضواء شواطئ إسبانيا تلمع نورا وتوهجا, والبحر هادئ تنطلق بداخله قوارب الصيد. جدة إحسان تحكي:

أحرمنا من القدس, وضعنا حوائجنا في زاوية المغاربة, تعرفنا على بعض المغاربة المقيمين في القدس وصلينا صلاة الجمعة. مسجد القدس رفيع البناء, مسقف كله, فيه مكان معلوم صلى فيه الخليفة عمر بن الخطاب, في ركنه الشرقي مزار يقال له مهد عيسى عليه السلام, وله طاقات واسعة يشرف منها الناظر على الوادي الذي يسمى وادي جهنم. تحت المسجد الأقصى مسجد آخر واسع جدا بني على أساطين من حجارة منحوتة . طورزيتا الواقع بين المسجد والوادي الكبير جهنم … ويشرف طورزيتا على القدس كله وما حوله . جبل الزيتون, الواقع بين المسجد والوادي الكبير واد جهنم, يشرف على القدس كله وعلى ما حوله. في أعلاه مزار يقال أن منه وقع رفع سيدنا عيسى عليه السلام, ويوجد قبر رابعة العذرية في مغارة تحت الأرض, و قبر السيدة مريم يوجد بكنيسة. صلينا صلاة العصر بالمسجد الأقصى. أحرمنا من القدس .

منى لا تصدق كل ما تحكي رقوشة. تجد في كلامها ضربا من كلام اليهود الذين يزعمون بهيكل سليمان, ويزعمون كذبا أن سليمان منهم وما هو منهم. تتساءل عن كلمة طورزيتا؟. تجد أنها ليست عربية. تعلم أن رقوشة لا تحترس عندما تحكي عن التاريخ. تجد في حكيها خلط .

منى تتساءل عم تحكي رقوشة جدة صديقتها إحسان. هل تحكي بنظام لغوي؟, وهل هذا النظام ترجمة أم تأويل؟. هل تحكي بصدق عم شاهدته بغرناطة وبالقاهرة وبالقدس؟ أم أنها تصنع التاريخ مثلما يصنعه الحكام والطغاة و الزعماء؟. تذكر حديث صاحبها لها قبل مجيئها إلى شقة صديقتها إحسان “… إن النظام اللغوي هو طائفة من القوانين المتصلة القائمة بواسطة ظواهر ظاهرة وخفية , وإن اختلاف النظام من وقت إلى آخر يؤدي إلى تغير في التشكيلات… “

جدة إحسان تحكي متفاخرة ومتعاظمة:

تعلمين أن جدة جدتي هي الست الحرة التي حكمت تطوان . في السنوات التي حكمت تأسست الخصائص الكبرى التي هيمنت على مجمل تاريخ تطوان وجعلت منها كيانا مجتمعيا بقيت خصوصيته ثابتة لحد الآن. هذه الخصائص تحمل تناقضا غريبا حيث هي مزيج من العداء والحنين إزاء أوروبا القريبة التي لا يفصلها عنا إلا هذا البوغاز الذي تشاهدينه…

تحكي على مهل وفي وهن شبيهة بالموت.

تطوان مدينة أندلسية حقيقية تختلف عن فاس وسلا رغم الشبه الحاصل . تعرفين حي البلاد؟ هذا الحي له دلالته الرمزية وشحنته العاطفية, إنه تطور للأحياء المورسكية, سكن فيه جدي. جدي شارك في ثورات المعارضة التي عرفتها هذه المدينة المتمردة, حيث حوصرت برا وبحرا مدة ثمانية عشر شهرا. مما أزم وضعها الاقتصادي , وتعرضت المدينة لمرض الطاعون خلال ربع قرن, ومن بعدها ساءت الأوضاع بتطوان, وهذا ما ساعد على احتلالها من طرف إسبانيا سنة 1860. انظري منى إلى شواطئ إسبانيا إنها تتوهج نورا. يطيب لي أن أزور غرناطة وإن كنت عجوزا . يحلو لي أن أقضي شهورا برفقة ولدي بسكنه البحري بمربيا, أسمع رقصات الفلامنكو و يخفق قلبي فرحا .

تحكي وقد بدا عليها الوهن الشديد, لكن عينيها مفعمة بالحب والسياسة. تحكي في تألق مدهش وكأن عمرها أربعون سنة:

أحرمنا من القدس, لكن عندما دخلنا القدس لم نجد فيها أشجار النخيل.

منى تتساءل عن الرطب الذي تساقط. أين اختفت أشجار النخيل؟. قال تعالى*وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا*.

منى تغرق في صمتها المعتاد, تتساءل في دهشة وجنون عن تحاليل صاحبها. هل هو الذي أوحى للسيدة رقوشة بمثل هذه التفاسير؟ أو لعلها أقوى منه على البحث في غور التاريخ ؟. يجب البحث عن النخيل, لنقوم بمقابلة التعارض القائم بين لذة الرطب وألم الولادة.

يحكي صاحبها في تأويل بسيط عن قضايا الكون والعدم. منى عند قراءتها يزيغ منها النص المقروء. تحاول تفكيكه, فتجده يتكرر في مناورات مدهشة. تكشف غباءها لأن النص الحقيقي يتكرر بشكل مشوه. منى غير قادرة على التأويل. رقوشة تذكرها بمكاشفة صاحبها لبعض الأقوال. تسمع آذان العشاء, تقف وتصلي “الله أكبر”. تقرأ *وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا*.

الجدة تنبه حفيدتها إحسان إلى أنها تشم رائحة قدرها يحترق. تتساءل في دهشة:

كل بنات هذا الزمان يحرقن القدور, لماذا؟

كانت منى قد نصبت قدر الحمام باللوز لصديقتها إحسان, قبل ولوج الشرفة التي تجلس فيها السيدة رقوشة, وكانت إحسان تمسك بورقة وقلم, تكتب البهارات المستعملة وطريقة نصب القدر. إحسان لا تعلم أن رهام عندما دخلت إلى المطبخ باحثة عن أمها أمسكت بالورقة ورمتها في الزبالة. رهام كانت مشغولة بالنظافة, كلما رأت ورقة تظن أنها مسودة يجب أن تلقى في الزبالة.

الجدة تبدو متمردة تواصل حياتها عبر حكاية تاريخ منسي. تكاشف ذاتها المتشردة ما بين رقع متباينة حطت فيها, فتركت عندها جروحا ما بين القدس و غرناطة. عندما تتذكر تشعر أنها تقاوم الموت وتعيش الحياة , لا تعرف الحب ولا تعرف السياسة. تحفز كل نساء العالم على المكاشفة والدخول إلى القدس وغرناطة.

رقوشة تردد بصوت خافت دافئ:

القدس… غرناطة

منى تردد القدس بلثغة الجدة رقوشة, تسمعها صديقتها إحسان فتبتسم. تغرق النظر على امتداد البحر, فتشاهد أضواء طريفة. إحسان بالمطبخ, تغسل القدر وتحكه. ترغب في أن تكون الطن جرة تبرق وتلمع مثل ضوء القمر .

منى مازالت غارقة, في دهش تردد تساؤلات أبو أسد عندما يكتب نصا معطوبا :

لماذا كرهت السيدة مريم عند بلوغها الزواج؟. لعلها كرهت أن تنجب صبيا, لقد كره لها زكريا الولادة. كرهت السيدة مريم أن تلد هروبا من أن يلقى أولادها اليتم الذي عاشته عندما كفلها زكريا ولم ينشئها أبواها, فلعلهما توفيا وهي صبية. لكن أظن أنه بقي في نفسها شيء من مرارة اليتم إذ كرهت الزواج والإنجاب. فارقت أهلها واعتزلتهم, واتخذت من دونهم حجابا. كان الله تعالى ينظر إلى حالها وقصتها, فأراد أن يكذب ظنونها, وأرسل إليها الملك بغلام خلقه خلقا من تراب, وجعله في رحمها. حملته, و جاءها المخاض إلى جذع النخلة فولدت ونطق وهو صبي.

جدة صديقة منى, إحسان, تمد نظرها إلى شواطئ مرسى المضيق. القوارب الصغيرة بضوئها الخافت تخرق البحر الأبيض المتوسط. تعلم أنها خرقت هذا البحر لتحرم من القدس. تحكي والوهن باد على جسدها , لكن ذاكرتها قوية تسعفها على حكاية بعض من التاريخ , تقول:

وصنا القاهرة . سمعت أم كلثوم تغني:

مالي فتنت بلحظك الفتان وسلوت كل مليحة إياك .

فتاح لا يعرف سيد العباس , كان هو الآخر يتردد على سماع أم كلثوم مثل سيد العباس وصديقه التطواني. فتاح لم يلج كازينو الزقازيق ولا البوسفور, جاء إلى القاهرة متأخرا . لا نعرف أين كان يسمعها تغني في القاهرة, وأين استقر عندما كان منفيا؟ كان يشرب خمرا كثيرا, وكان مهموما بالقضايا السياسية. هرب من وطنه إلى القاهرة خوفا. كان ينتظر الاستقلال, حصل المغرب على الاستقلال, وعاد مرة أخرى لاجئا سياسيا ليس في القاهرة ولكن في باريس.

جدة إحسان لا تعرف السياسة, لكنها تحكي التاريخ . يقولون لها السياسة فيها الفلوس. منى تتساءل والدهشة تعتور أطراف جسدها, السياسة فيها الفلوس؟. هي الأخرى كانت في باريس, لكن لم تخض غمار السياسة, لم تكن تظن أنها تدر أموالا وافرة. في هذا الزمن الوزير الأول يحتفظ براتبه الشهري المرتفع وإن لم يعد وزيرا, السياسة فيها الفلوس, منى تجهل هذه الامتيازات. عندما دخلت مع زميلاتها الطالبات كالنعاج في الفركونيت من الحي الجامعي بظهر المهراز لم يخطر في بالها أن السياسة فيها لفلوس. لم تخض غمار السياسة, خاضت غمار الطن جرة بداخلها حمام القدر باللوز. كان همها أن تقدم أطباقا شهية لصاحبها وزملائه, وأن تنعم بشغب أسد وآية ورهام. وتقول لصاحبها “اغضب كما تشاء, إنك كالأطفال نحبهم مهما لنا أساؤوا … اغضب …. وابق معي إن سألتك الرحيل…”

فتاح في أحد كابرييات باريس يستمع إلى المطربة وردة تغني في منتصف الخمسينات في كابري والدها. يغني في نفس الكابري الذي تغني فيه وردة حسين السلاوي و محمد افويتح. هذا الخبر لا تعرفه منى, سمعته عندما كانت تتجسس على السجال الأدبي بين صاحبها وزملائه. زميله اللغوي المشهور بنظرياته الوظيفية يعجبه أن يلتقط الأخبار الفنية ويخزنها في ذاكرته ليفاجئهم بتفوقه عليهم في فن الغناء . التقطت الخبر يوما ضمن السجال اللغوي عندما كان يحكي وهي تمد صاحبها بأطباق شهية قرب باب غرفة الضيوف كان يقول :

… إن انطلاقة وردة السينمائية لم يكتب لها فيها النجاح مبكرا. لكن شهرتها بدأت مع منافستها لفايزة أحمد وليلى مراد وهدى سلطان ونجاح سلام وغيرهن. وبعد زواجها من الملحن بليغ حمدي تألق نجمها وأصبحت منافسة لكوكب الشرق السيدة أم كلثوم.

كانت منى عندما تسمع هذه الأخبار الفنية تتساءل: “كيف لا يعرف المغنية بريكة, ولا يعرف للا فضول؟ ولا يعرف المغنية سليمة مراد بالعراق ولا يعرف أن أغاني أم كلثوم تدرس في إسرائيل. أخباره الفنية ناقصة.”

الشقة الصغيرة بمصطاف مرسى مضيق يعبقها دخان حريق قدر الحمام باللوز. صديقتها إحسان متألمة على ضياع الورقة التي سجلت عليها وصفة طبخ قدر الحمام باللوز. تحك الطنجرة تريدها لامعة مثل القمر . منى تسمع السيدة الرقوشة تحكي:

أحرمنا من القدس.

تدخل المطبخ والدة إحسان السيدة حفيظة وتفتح النوافذ فيخرج دخان الحريق. تدخل رهام تغني:

سنرجع يوما إلى حينا…

الفصل السابع

كنزة

سيدي امحمد شغوف بترتيل القرآن الكريم بالغدو والآصال, و يداوم على أن تستظهر عليه صاحبته الأدعية. هي مشغولة بكل الأعباء داخل البيت وخارجه فالزوج العجوز يوكل إليها التصرف في كل مهام الأسرة ويطيب له أن يحدثها عن الكرامات. يقول لها:

للا كنزة, سمعت بولي صالح ينتشر في الناس خبر كراماته فيفدون عليه. يخترق الجدار. يصلي العصر في مكة وهو يقيم في فاس. يزرع حبة فتغدو حقلا من الشجر المثمر والمظلل.

يموت الولي الصالح ذو الكرامات, والذي كانت حياته جملة من الأفعال الدالة على قدرته المتحدية لقوانين الطبيعة. ينسى أتباعه أنه لم يستطع أن يتحدى قوانين الموت. يموت فيغدو قبره قبة مباركة.

كنزة تنط على دابتها في اتجاهها إلى الزعيم الوطني المنفي. تقول في نفسها:

سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين, وإنا إلى ربنا لمنقلبون. الحمد لله, الحمد لله, الحمد لله. الله أكبر, الله أكبر, الله أكبر. سبحانك, إني ظلمت نفسي, فاغفر لي, إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

تعود بعد زيارتها للزعيم المنفي, تسمع آذان المغرب و تردد بصوت خافت:

اللهم هذا إقبال ليلك, و إدبار نهارك, وأصوات دعائك, وحضور صلواتك, أسألك أن تغفر لي…. اغفر لي…

تنظر إلى الهلال وقد أهل شهر شعبان المبارك, تقول في نفسها:

اللهم أهله علينا باليمن والإيمان, والسلامة والسلام.

تصوب نظرها صوب الهلال, بجوارح مكلمة متضرعة, تردد في نفسها:

اللهم بارك, بارك, وأفئ عليهما من خيرك, إنهما أعز ما أملك.

للا كنزة تخفي في نحرها صك قسيمة كتبت بخط مغربي جميل وبحروف واضحة.

رقم 88676

الحمد لله وحده.

نحن الشقيقين الموقعين أسفله عبده ومحمد, نشهد أنه قد انعقدت الشركة بحول الله وقوته بيننا. دفع الأول وهو محمد أربعة ملايين, والثاني وهو عبده مثلها. وحاز الجميع عبده, واتفقا أن يتجرا في الخشب, بالمال المذكور, بغابة تافاغات والخشب اليابس بغابة تعريشت. فوض محمد لشقيقه عبده في البيع والشراء والأخذ والعطاء, وعلى محمد العمل. وما يفئ الله عليهما في ذلك من الربح يكون أثلاثا بينهما, لعبده الثلثان ولمحمد الثلث. وعليهما في ذلك بتقوى الله العظيم من لا تخفى عليه خافية في السر والعلانية. انعقد صحيحا في شهر شعبان سنة 1371 , موافق مايو 1952.

الإمضاء عبده , محمد.”

اعتاد شقيقها محمد أن يخبئ عندها بعض العقود والوثائق المهمة. تبارك الشركة, وهي في طريقها إلى الزعيم المنفي الذي اعتادت أن تحمل له الغذاء الشهي بعد الظهر. السيدة كنزة صعبة المراس, عظامها قوية, عضلاتها مفتولة وصلبة, خفيفة الحركة, هيفاء, تنط على البغل في لمح البصر, لا تعرف الكسل ولا التهاون. العمل عندها عبادة متواصلة, من شروق الشمس إلى غروبها. بعد زيارة المنفي, تعرج على معمل منشار شجر الأرز لتطمئن على أخيها. تحكي له بعض هموم أبناء زوجها وتتوسل له أن يشغل أحد أبنائه المنحرفين فيستجيب لها. تجهد جسدها لتوفر محصولا زراعيا وفيرا كل سنة, فالزوج المسن المقعد بيتا لا يبرح غرفته وهي بجواره نعم المرأة الصالحة, تؤنس وحدته وتحفظ أدعيته. كذلك هي نعم الأم, تحنو على صغارها, وتحكي لهم حكايات الحب والسياسة.

تقترب من قدر الرائب, حليب البقر الطبيعي, بعد أن تركته يوما أو بعض يوم يروب, ولا تأخذ منه زبده. أسعد لحظاتها عندما تحمل قنينة الرائب إلى المنفي , مع خبز بداخله قطع مختارة من لحم الغنم مشوية على نار خافتة تترك اللحم ينزف دما, تعرف أنه يلذ له استواؤه على الطريقة الفرنسية, لا تضيف له عطورا. اعتاد المنفي أن تزوره كنزة. زوجها المسن لا يمانع في خروجها لأنها تغمره ودا وحنانا ولطفا, تلبي طلباته بسرعة البرق و ترافقه بمهمازه وهو يعبر أركان الغرف متفقدا سكنه , تخبره أن أخاها سيشغل ابنه الطائش في المنشار فيستبشر خيرا. تطلب منه أن يرسل ابنهما الصغير إلى باريس لاستكمال دراسته. تحنو عليه بعطف شديد وتتودد له . تقول والأمل يشع في عينيها:

أ ريد أن يدرس ولدي البوليتيك في باريس.

يرد غاضبا:

هذا حرام و خزي. ولدي سأبعثه إلى فاس ليدرس في القرويين.

يشتد غيظها وتغرق في حزن عميق. تستحضر كل أحاديث الزعيم المنفي عن دراسته في باريس, ورحلاته السياسية بين جنيف ومدريد. تتذكر بإعجاب وانبهار أحاديثه :

سنة 1931 غادرت فاس إلى باريس. سنة 1932 ألقيت محاضرة بباريس عن السلطان الحسن الأول والنهضة المغربية, وفي نفس السنة سافرت إلى جنيف حيث تعاونت مع الأمير شكيب. اضطررت إلى مغادرة سويسرا بسبب نشاطي السياسي فتوجهت إلى مدريد حيث شاركت في تأسيس الجمعية العربية الإسلامية.

يحكي والعظمة لا تسعه عن زمن دراسته وتفوقه. السيدة كنزة ترغب أن يدرس ولدها البوليتيك مثل الزعيم.

سيدي امحمد يجهد جسده في العبادة وقراءة القرآن قبل الفجر. عندما يصلي يصيب الوهن جسده المترهل, فيستسلم إلى النوم. تستيقظ كنزة في الصباح مبتهجة فرحة لشروق شمس جديدة. يحل الظهر والعصر لا شيء يتغير, تستعد للخروج فيتغير كل شيء. تجد حريتها وحقوقها وذاتها في خروجها من البيت. إنها امرأة قوية, ليست موضوعا لمتعة أي رجل, ولا جسدا ساقطا لنظرات بعض الرجال السفلة. تغض البصر, تستحي و تنط على فرسها بفخر واعتزاز. لا تضع نقابا يجرح عينيها, تعلم أن النقاب يلقي على مناطق في الجسد الأنثوي أقل مشاركة من العين. العين خلقها الله سبحانه وتعالى للرؤية. وجه كنزة عار. لا يشك زوجها في خروجها عندما تتزين تزينا بسيطا لا يلفت النظر, تعتمد فيه على الماء.

القرية كلها تعلم بتردد كنزة على سكن المقاوم السياسي ويعتبرون زيارتها مقاومة من أجل خروج فرنسا. عند قدوم زوجة المقاوم من فاس لزيارته رفقة أولادها, لا تصيبها الغيرة من كنزة. كنزة سيدة محصنة عفيفة , مثل للأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة, وكل أهل القرية يشهرون ذلك. الزعيم نسي منفاه وكأنه يقيم في قرية جميلة للاستجمام والراحة. عندما تزوره , يخلد إلى الصمت, وعندما يتحدث إليها بصوته الرخيم الرقيق تبدو سعيدة و تبتسم.

الزعيم المنفي يخاف عليها, عندما تزوره, من حر الظهيرة و رمضاء ها . تلمس في عينيه وهي تودعه ودا وحنانا جارفا. لا شيء أجمل في هذه القرية من السيدة كنزة. إنها نار مشتعلة, لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها. تعطي بسخاء الغذاء النقي والطبيعي واللذيذ, لا تستعمل البهارات. ما بقي لها من زمن ما بعد الظهيرة تنشد فيه الخلوة إلى ذاتها, وكأنها ليست زوجا ولا أما ولا طباخة ولا فلاحة. إنها بحق فنانة تنسج من صوف الغنم نسيجا, و في فوضى النسج تخلق قطعة تهديها إلى الزعيم المنفي, ليخيطه بفاس جلبابا أمازيغيا يحميه من زمهرير برد القرية القارص لشتاء المقبل. تجلس القرفصاء, تنسج وكأنها للا فضول تنقر على العود. اختارت لون شعر الجمل, وشكلت بداخله رسوما مربعة بلون البرتقال. تسرع في النسج لتحمل الهدية. تشتغل حتى منتصف الليل, فتيل الزيت مضيء داخل قنينة الزجاج يسعفها على النسيج. تبدأ الشغل مع أول إشراق الصباح, وتنتهي قبل غروب الشمس. يتعجب الزعيم المنفي, الفرحة تغمره وهي تمده بقطعة نسيج الصوف. لم ينبس بكلمة, ظل صامتا كعادته يرمقها بخوف وحرج, ويغض بصره إكبارا وإجللا. يصمت, يضع قطعة الصوف على كتفيه منتعشا, يظل يتمسح بأذيالها لحظات ثم يقول لها:

سأبعث بهذه القطعة من الصوف الجميل لصاحبتي, لتخيطها بفاس جلبابا رائعا. ما أجمل هذه القطعة المنسوجة بيدك سيدتي للا كنزة …

يعبث الزعيم بنتف قطعة النسيج و يقول لها مازحا:

فحمل مغازل للنسوان أولى لهن من اليراع مقلمات

لا تفقه قوله, ولو فقهت قوله لقالت “حسبي الله ونعم الوكيل” لعن الله أنانية هذا الشاعر, يريد أن ينفرد باليراع ويتمتع بدفء قطعة المنسوج ؟. نرجسية الشعراء عمى وظلال. تصمت .

تخرج متعثرة في مشيتها, تمتطي فرسها, يكسوها الخجل وتحمر وجنتاها. الآن لم تعد تبحث عن ظل في طريقها إلى البيت, إنه فصل الشتاء والبرد قارص, لكن دفئ الزيارة يشعل جسدها لهبا, وينير طريقها أملا وإشراقا وتوهجا, تحلم لحظة . تلمس برفق قسيمة صك الوثيقة التي أعطاها لها أخوها محمد. هي لا تعرف القراءة, لكن تعرف أن الوثيقة مهمة. ما هي بقارئة, لكنها فنانة تنسج قطع خيوط الصوف, لتشكل قطعة منسوج لجلباب فاخر. كنزة تعرف الحب, وتعرف السياسة وتكره الحرب. تعبر الطريق إلى بيتها, و زمهرير من البرد يعصف بقلبها. تعقد العزم على أن تنسج قطعة صوف للزعيم المنفي الشتاء المقبل.

الزعيم الوطني المنفي يتجول في سوق القرية, يسمح له بذلك يوم الاثنين. إنه شاب يتجاوز الثلاثين بقليل, نفي من مدينة فاس إلى هذه القرية, وأمضى بعض الشهور في جهات من جنوب المغرب منفيا عن أهله. يتكلم الفرنسية بطلاقة كما يجيد العربية. كان من أوائل المغاربة الذين اتجهوا إلى باريس قصد التحصيل والمعرفة. درس فيها بعد إعلان الحماية العلوم السياسية, ولاحظ مبكرا تناقضا بين سلوك فرنسا في المستعمرات وبين ما يدرسه في معاهدها, وخصوصا أفكار الثورة الفرنسية. عاد إلى المغرب وشارك في ما يدعى بالحركة الوطنية. نسي في تحليلاته شيئا واحدا هو أن الاستقلال لا يعني بالضرورة سيادة الأفكار الاجتماعية والسياسية النظيفة التي درسها في معاهد فرنسا, كما نسي أمرا آخر هو أن الحكم الوطني ليس بالضرورة نقيض الظلم والقهر. كان يعتقد أن هذه المعاني السوداء لا يمثلها إلا الاستعمار الفرنسي. كان الزعيم الوطني المنفي مرة مرة يكتب بعض الملاحظات من خلال قراءاته, وهو يستجم في القرية الجميلة, من بين ما كتب : “… المصيبة في هذه القصة التي يرويها فكثور هيكو هو مقاومة الجمهوريين الانقلاب الإمبراطوري, وخيانة لويس نابليون بونابرت…”

وسط حلقة مكتظة في السوق, كان يلتف أهل القرية حول الزعيم الوطني المنفي. صبية وشبانا وعجزة يحدثهم بلطف وغرور:

… قال أبو الحسن: كان نافع بن علقمة واليا على مكة والمدينة, وكان شاهرا سيفه لا يغمده. بلغه أن فتى من بني سهم يذكره بكل قبح, فلما حضر أمر بضرب عنقه, قال الفتى: لا تعجل علي ودعني أتكلم. قال : أو بك كلام؟. قال: نعم, وأزيد يا نافع, وليت الحرمين, تحكم في دمائنا وأموالنا, وعندك أربع عقائل من العرب, وبنيت ياقوتة بين الصفا والمروة, وأنت نافع ابن علقمة أحسن الناس وجها, وأكرمهم حسبا, وليس لنا من ذلك إلا التراب, لم نحسدك على شيء منه, ولم ننفسه عليك, فنفست علينا أن نتكلم. قال: فتكلم حتى ينفك فكاك.

يزداد أهل القرية التفافا حول الزعيم, وهو يحدثهم عن ‘البوليتيك’ الذي درسه في باريس. الزعيم يخاطبهم بالعربية مختلطة بالفرنسية. يحكي عن حركاته في مدن المغرب.

سنة 1942 سبتمبر, أكتوبر ونوفمبر في مدينة تطوان اتصلت بالوطنيين المغاربة, ونسقت معهم برنامج العمل. كان من بين رجال تطوان رجل ذو مال وفير, لا يهتم بالسياسة, لكنه يغدق علينا من أمواله ما يسع نفقاتنا.

سنة 1943 غشت أصدرت في فاس جريدة باللغة الفرنسية.

سنة 1947 سبتمبر ساندت الحركة الوطنية بمكناس على إثر حوادث وادي بوفكران, وكانت لي اتصالات مع الوطني الغيور الطاهر. لقد كان من زمرة المهتمين بالقضية, وقد أقام زمنا بمناطق الأطلس, وخاض مغامرات وطنية قبل مجيئه إلى مكناس. كتب قصيدة مشهورة عن ولعه بالوطن يقول فيها:

لله في أرض المغرب جنة سحرت قبيلا أنفس الشعراء

المقاوم السياسي بالقرية يدفع عن طريقه حمارا أسودا مختلط لونه ببياض, وراء الحمار يقف عبد وأخوه محمد. إنهما من شرفاء سكان القرية نسبا , يقدمان المساعدة للفقراء والمحتاجين. يتشاوران في تأسيس حزب شعاره ‘الحمار’ لأنه يمثل الطبقة الكادحة والمتوسطة العاملة, التي تجهد نفسها في الشغل المتواصل وتؤازر الحركة النسائية وكل من يعاني شظف العيش. يبادرهما الزعيم بالكلام :

ماذا تفعلان؟

يجيب عبده على الفور:

إننا ننتظرك. كنا خائفين أن يضيق عليك ‘القبطان’.

يرد متغطرسا:

من أين جاءكما هذا الإحساس؟ وهل أخبركما أحد؟.

لا لم يخبرنا أحد, لكن نخاف أن يعلم اتصالاتك بأهل القرية, فيقرر التضييق عليك.

يخبرهما أن التضييق لا يخيفه, وأنه جرب النفي والتضييق وخنق الحرية في السنوات الماضية بالجنوب الغربي من البلاد. الشقيقان عبده ومحمد يباركن شجاعته. يسألانه عن تطور الحركة الوطنية بفاس والرباط والدار البيضاء, تلك البقاع البعيدة التي تشهد نشأة الوعي بالذات أمام القوة الأجنبية المسيطرة. كانا يتظاهران بالموافقة على كل ما يلقى إليهما من مطالب وآمال, لكنهما ما كانا يجاوزان الموافقة الظاهرة إلى الانضمام إليه في حركته المنظمة. كان أحدهما أكبر من الآخر, وكان الأصغر منهما لا يقدم ولا يؤخر رجلا إلا بإذن الأكبر. قبل وصول زعيم المستقبل إلى مكانهما من السوق كانا الأكبر يقول لأخيه محمد:

إن ما يقوله هذا الوطني المنفي جميل. إنه شاب لم يبلغ الثلاثين, إنه في مثل سني أو يكبرني بقليل, و لكنه طافح بالخيال والهمة والغطرسة.

كان لا يفصح عن هذه الانتقادات إلا نادرا, أو صحبة أخيه في خلوتهما الصادقة. كان يرى أن فرنسا لن يخرجها من البلاد إلا تطور يحدث في الظروف الدولية, وأنها لا يمكن أن تخرج بضغط من شعب أعزل, ولا من حركة منظمة أو غير منظمة, سلاحها القلم واللسان. كان يعلم أن زعيم المستقبل لا ترضيه هذه الحقيقة, لذلك كان يتظاهر له بالموافقة على قوله بأثر النضال السياسي على المستعمر.

منى طفلة اشتد عودها, وبدأت تسافر إلى القرية الجميلة لتزور عمتها كنزة. تعبر سطوح القرية المتوالية والتي لا تعلم لها حدودا ولا نهاية. كان من عادة أهل القرية أن لا تخرج البنت من باب الدار إلا برفقة محرم لقضاء حوائجها الضرورية, وإذا أرادت أن تزور أهلها فيتم العبور إليهم عبر السطوح المتلاحمة والمتشابكة. كانت تتردد على سطوح القرية و تقطعها من أعلى إلى أسفل.

للا الشريفة زوجة عمها تنام عند الظهيرة, فيفقد البيت الكبير المتباعد الأطراف الرقابة والصرامة المفروضة, ويغرق الخادمات في حاجاتهن الشخصية من نظافة وغسيل وترتيب ملابسهن. يروج بينهن خبر الخادمة فاطنة وعلاقتها بالسائق, واستحواذها على تلابيب عقله وشغاف قلبه. حصل ذلك عندما كان يوصل إلى البيت سلة اللحم والخضر . السائق كان على خلق كبير وطلب الزواج من للا الشريفة ربة البيت. وافقت على خطبتها, وأعلنت أن الشهر القادم ستزف عروسا له.

منى تتسلل إلى باب السطح في حذر وعجلة بخفة البرق. من سطح إلى سطح, تصل إلى سطح عمتها, وتصرخ بصوت عال:

عمتي كنزة.

تمد لها سلم من خشب الأرز, فتنزل بسرعة, وتزرع في حضنها وتقبلها قبلات صادقة. تحضنها أكثر من ساعة, تشعر أن حضنها يختلف عن حضن جدتها زهور. تدخل يدها بسرعة, تلمس صدرها فلا تجد العقد بقميصها. تصاحبها عمتها كنزة إلى غرفة مظلمة, وتصب لها, من القدر الطيني, الرائب طريا طبيعيا باردا. تمسك بملعقة الخشب و تحرص بنباهة على أن لا يتفتت ولا يتكسر الرائب, ترغب فيه قطعة واحدة متماسكة. تتحايل عليه لتجمعه قطعة مجمدة بالملعقة, تلقيه في حلقها, وتحمد الله على أنه لم يتكسر قبل البلع. يلذ لها احتواء الزبد المتجمد على واجهة القدر الطيني. تأكل بنهم, ويسري الرائب في جسدها مغذيا منعشا لذيذا.

تجلس على هيدورة صوف الغنم, بالقرب من عمتها, ترقبها تشكل لوحات فنية رائعة. تسند رأسها على صدرها, تنسل يدها بداخل قميصها بسهولة, لا توجد ‘العقد’, القميص مفتوح. عمتها تسلك رتق أصابعها داخل شعرها القصير, وتقول لها:

لا, لا تتركي أمك تقص شعرك هذا حرام؟ ‍‍

ترد على الفور:

أمي يتعبها تصفيف شعري الطويل في الحمام, تقول الشعر الطويل ليس موضة. عمتي هل تعلمين أن بنات خالي كلهن قصصن شعرهن؟

تزداد التصاقا بعمتها, تشد النظر إليها بحب وإعجاب وهي تنسج خيوطا. تتوقف كنزة لحظات عن النسج, تغني وتتأمل ثم تنسج بسرعة البرق. تنسج قطعة صوف لأخيها محمد, تخاف عليه من برد القرية. منى الطفلة الصغيرة تشعر بالخوف العارم يكتسح جسدها, تخاف أن تستيقظ من النوم زوجة عمها للا الشريفة و تعلم بخبر زيارتها لعمتها عبر السطوح. للا الشريفة تحذرها من الصعود إلى السطح, تخاف عليها أن يصيبها مكروه. كنزة لا تخاف وتخرج, كان ذلك قبل أن يستقل المغرب. منى لا علم لها بذلك, ليت عمتها تسر لها ببعض الزيارات التي تعتبر مشاركة في النضال الوطني وخروج فرنسا من البلاد.

منى تجد في هذا العبور العلوي شبه بالنفق المفضي إلى الأسواق التجارية بكيبك العاصمة. تعبر النفق من أسفل لتصعد إلى أعلى ثم تدخل مجمعا تجاريا, وتتجه إلى جناح الأغذية لتبحث عن الرائب نوع ‘ ليبغط يوكورت ناتير’.

منى تريد أن تتخلص من الماضي من التاريخ. التاريخ الذي قرأته كذب, تبحث عن التاريخ في المكان. منى توجد الآن بداخل غرفة ب ‘بافيو بارو’ رقم 8517 بجامعة لافال كيبك, في زيارة لولدها أسد بكندا. تداوم على المشي تبحث عن الحب والسياسة. تعبر راجلة الساعات الطوال, تستبد بها هموم الإنسان في كل المكان, حيث يكثر الدم والدمع ويقل الماء. تحب كندا لأن ماء كثير, تغمرها مياه شللات نياكارا. تتوقف عن المشي لتشاهد العشب الأخضر المحاذي لجامعة لافال. منى متعبة, تحمل هموم الماضي والحاضر والمستقبل. تتشابك عندها الأزمنة في تداخل مخيف و يختفي المكان. تشعر أن لا مكان لها حقيقة على كوكب الأرض إلا هذه القطعة التي تقف عليها الآن, العشب أخضر. تتجول بمدينة كيبك القديمة, تجد أن أزقتها فيها دفئ كثير مثل أزقة غرناطة. المكان يتوزع عندها في بقع عديدة من العالم, تبتعد عنها وتقترب منها. تتذكر قول صاحبها حين طلبت منه أن يشتري لها مرطبا للجسد ‘كلاغانس’ من مدينة مسقط ربيع هذه السنة. قالها:

أنا أصرف مالا كثيرا على عقلي ليروق ويشفى, أنت تصرفين مالا أكثر مني على جسدك لينتعش ويتغذى. لقد بحثت عن ‘كلاغانس’ لكن لم أعثر عليه. السلع الفرنسية نادرة بسلطنة عمان.

منى بخلاف صاحبها تمنح جسدها عناية كبيرة, تعرف أن بالجسد يروق الفكر. لا تشغل فكرها إلا في حالات جمال جسدها وأناقته وانشراحه . تجلس على حافة كرسي داخل حديقة قرب مراكز التسوق بكيبك وتقرأ قسيمة كتب عيها: ‘Clarins vous écoute et vous conseille . تدخل القسيمة وسط غلافها, تضعها في حقيبتها, ثم تخرج من الحقيبة ديوان شعر, وتقرأ العنوان: ‘يلف خصر الأرض’ طبع بواشنطن سنة 1992. تفتح الديوان وتقرأ قصيدة:

طعم الغربة كطعم التردد.

يحضرها بيت شعري آخر لغادة السمان:

… فيها الغربة ليال طوال للحوار مع الجدار.

تردد شعرا حفظته لشاعرة مغربية تقيم بنيويورك:

I want water, water.. Not the riverbed

And wind, not the course of wind, but wind.

منى تريد الماء, تبحث عنه في كل رقع العالم. لا تشعر بالغربة, يروق لها أن تعبر البقع الخضراء وأن تشاهد الماء يتدفق من النفورات. الماء مرتبط عندها بالطفولة, وبمياه الأطلس, وبحيرة أكلمان سيدي علي, وعمتها كنزة. منى تشم رائحة الرائب الذي تحمله عمتها إلى الزعيم, الرائب ينساب. كشفت عن ساقيها بلمح البصر, شدت القنينة وأعادتها لتخفيها داخل صدرها. تتمهل في رحلها إلى الزعيم, الفرس هو الآخر يعلم أنها لا تريد الإسراع لأنها تخاف أن يتدفق الرائب, تريد أن يصل إليه كاملا. في لحظة سهو تسرب الرائب وكشفت عن ساقيها. أي أحلام يقظة كانت تراودها وهي في طريقها إلى الزعيم منفي؟. انفلتت من بين صدرها قنينة الرائب أدركتها بيديها, أعادت القنينة إلى صدرها, وأخذت تدهن ما انساب من الرائب على باقي أطرافها العارية. الرائب مرطب, تسقي جسدها لبنا طريا, وتصاب بسنة شبيهة بالحب والسياسة.

سقي الجسد عند السيدة كنزة ليس الغرض منه الحفاظ على الشباب الدائم, بل الغرض عندها أن تغذي جسدها وتجعله لامعا و مشتعلا. هي لا يوجد عندها ‘ كلاغانس’.

منى تشم رائحة الرائب. تعبر ممرات المراكز التجارية الضخمة, تتوقف عندما تشاهد مكتبة كبيرة, تدخل, تبحث عن صحف عربية, تقترب من رفوف الصحف, تمسك بيدها صحيفة الحياة, تقلب أخرى مكتوبة بحروف عربية لكن لا تستطيع قراءتها, تعرف أنها ليست لغة عربية. تعود تشد صحيفة عربية و تقرأ:

صحيفة الحياة 19- 8- 1997

قنابل وجرا فات

إدوارد سعيد

أستاذ الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة كولومبيا

لا مكان للسلام ما لم تتخذ إسرائيل وحلفاؤها الأقوياء خطوة مخلصة نحو ضحاياهم, خطوة يقدمون عليها بروح التواصل والتصالح …’

تعود تدخل غرفة ولدها أسد رقم 8517, تخط على ورقة أفكارا راودتها بسرعة على عجل:’ … جماليات التفكك وتشظي والتضاد, إنها شعرية علاقات التجاور والتشابه والتقارب’. تنحني بسرعة تمسك بكأس رائب, تجده شبيها برائب عمتها. تنشد الوحدة الكونية في خضم تفكك هذا العالم الرهيب, تتساءل: لماذا الرائب في كبيك رائحته ومذاقه مثل رائب عمتي؟. ما معنى هذه الوحدة الكونية؟. الوحدة موجودة في المكان. لا نكتشف شيئا. يجب أن نبحث عن أشياء كثيرة توحدنا. الوحدة التي نطلبها موجودة وصارخة في كل مكان, الماء بالقرية الجميلة, الماء بكبيك , الرائب بأسواق كبيك, الرائب بسكن عمتي.

ما أجمل أن تلتقي الطفولة بالشباب, وأن تعرف منى أن الرائب المرطب تستعمله عمتها والكلاغانس المرطب في أسواق كيبك اشترته اليوم. كأس رائب ينفلت من بين يدها تكشف عن ساقيها وتسقيهما بالرائب مثل عمتها.

منى لا تملك ذاتها, هويتها متشردة متفككة متشظية. تسعى إلى امتلاك ذاتها وهويتها رغم التشرد و التشظي. تسافر إلى بلد بعيد, تقيم ما بين الرستاق و كيبك, تشعر بالحب وتكتب في السياسة. الوطن مشروع كتابة. منى تشد بكتاب حملته معها إلى كيبك, تقرأ صفحة 132:’…لا تنتمي إلى هذه القارة الضخمة. أين الوطن؟ إذن ما الوطن, حيث تحظى بالحرية والأمن, حيث تحترم وتصان, أين تحظى بذلك؟. يظل الوطن حلما. يظل الوطن جرحا ينزف…’ منى تخط ملاحظات على ورقة:’الوطن هو مشروع كتابة مجنونة. كشفت عن ساقيها وبدأت تمسح الرائب عليهما. تضطرب في مكانها. لا يجب أن تخفي عريها. صاحبها يوصي بذلك. منى تصر أمامه أنها مكسوة وسط العالم لن يصيبها أي مكروه تخصف الأوراق تكسو جسدها يتعطر. تطمئن .’

منى لا تعرف الحب لا تعرف السياسة, ولا تسكنها أحلام يقظة مثل إيما بطلة مدام بوفاري. إنها مترعة بخصب الإنسانية في كل بقع الدنيا تكتب, لا وطن لها. تتشتت عوالمها , تسمع صوتا :

إوا شدي الأرض.

تشد الأرض. تصمت, تعلم أن صوت جدتها تبخر منذ رفعت أم منى قميصها المذيل وأمسكته في حزام خصرها لتدخل إلى المطبخ. كشفت عن ساقيها وبدا سروال كولف منحصرا عند الركيتين.

السيدة كنزة تنسج قطعة صوف منتعشة هادئة. يشتغلن النساء في صمت. يبحثن عن الحب, والسياسة.

منى يعجبها أن تعبر كل بقاع العالم لتتأكد من أنه قرية صغيرة. تعبر ما بين لهيب الرستاق وزمهرير موريال. يسكنها الفناء والموت المحتوم, موت السيدة فضول, موت زهور, موت كنزة. موت والدتها أشد من زمهرير كيبك ولهيب الرستاق. تعبر الطريق المفضي ما بين فلج الشراة إلى كلية التربية مرورا بالمستشفى, تشتد عليها الحرارة و تضع واقية الشمس فوق الحجاب, تعبر العراء, الأرض قاحلة, حجر, لكن هنا في كيبك الأرض مخضرة, عشب. يدخل أسد يقول لها:

ماما ماما الجو رائق منعش في هذه الشهور فقط, الشمس دافئة. ماما باقي شهور السنة نعبر النفق, ونظل في الغرف أكثر من شهر لا نخرج. نعبر النفق لنصل إلى جامعة لافال, ونتسوق من المراكز التجارية. ماما مرة خرج زميلي حاتم بعد أن ضاق بعبور الممرات الأرضية, وعاد بعد لحظات يحمل أذنيه من شدة الصقيع. حملناه على عجل إلى المستشفى ليخيطها, فوجدنا آخرين يحملون آذانهم.

منى تبتسم.

أسد:

ماما هذه حقيقة الطبيعة الجغرافية لبلد كندا, البرد صعب والماء كثير.

الشاب المنفي, الذي سمي بعد الاستقلال بالزعيم كغيره من الزعماء , تعلم بعد الاستقلال أن العدوان والتجويع والإلغاء, صفات لا تخص الفرنسيين المستعمرين وحدهم, لكنه لم يستطع أن يجهر بذلك. صار كالذي مضى في طريق مسبعه فلم يرد أن يعود إلى الصواب, وأصر على المغامرة وإدعاء صواب الاختيار. يحكي عن الضباط الفرنسيين الذين استقبلوه في منفاه بجنوب المغرب, فتبرز في حكايته بقايا الإنسانية والعطف في سلوك الضباط تجاهه.

يلاحظ أن هذا الوطني المعروف لقي في منفاه من الاعتناء ما شجعه على الإصرار على مواقفه وتحمل الاغتراب في تلك الأصقاع الجنوبية قبل مجيئه إلى القرية الجميلة, لكن يمكن للبعض أن يقول أنه ليس اعتناء وأنه قهر وسجن وإسطبل ينام فيه , واحتقار واعتداء على الحرية. لكن بالمقارنة تقاس الأوضاع, فلو سقط في أيدي آخرين, ممن يستوردون خبراء في علم التعذيب, لاستحب أن يتراجع عن موقفه حماية لشرفه وكرامته وروحه, لكنه لم يعان من التعذيب إلا النزر القليل, ولو حصل له ذلك لاختفى مرة واحدة كما يختفي العديد من الطلبة ممن لا يحملون لقب زعيم.

الشاب المنفي كان يتجول في سوق القرية, دون خوف صباح يوم الاثنين. يتعرف على من يلقاهم من شرفاء أهلها الدين عرفوا انتفاضات سرية ضد المستعمر. كان بعض أهل هذه القرية يحترمون الفرنسيين المقيمين فيها لما كانوا يتمتعون فيه من جوانب إنسانية تجعل بعض سكانها يختلط عليهم الأمر, هل هؤلاء هم المستعمرون؟.

الزعيم يتجول مع صاحبه في أزقة فاس.

فرنسا تستولي على عقول المغاربة, فالشيوخ راضون بالحال, لا يثيرهم الوجود الفرنسي المنتشر. لعلهم يئسوا من كل تحرير. إنهم يقارنون حالهم الآن بما كانت عليه حالهم قبل الاستعمار. ألا تذكر أحاديثهم على السيبة وقطع الرؤوس؟.

يؤكد الزعيم لصاحبه أن الخوف كان منتشرا قبل الحماية. يبتعدان عن المسجد الذي صليا فيه, يمران على الخرازين. حمدة يتعثر في مشيته, يمر بجوارهما, لا يعرفه, الأحياء قد تفرق بينهما, حمدة بحي الرميلة والزعيم بحي صالاج. يصلان إلى باب قصبة النوار القريبة من باب بوجلود وباب الطالعة الكبيرة. ينظر زعيم المستقبل إلى جماعة من المشاهدين المحلقين على رجل في يده أفعى يتلاعب بظهرها. يصيح في وجه صاحبه الذي ذهب فكره بعيدا في تأملات غامضة. يقول :

لو انضم إلينا كل هؤلاء لصارت حركاتنا قوية, تقض مضاجع المستعمرين.

يتراجع إلى الوراء قليلا, يقول لصاحبه:

لكن حركاتنا قوية, أو ليست العبرة بالكيف لا بالكم.

يعبران نفس الطريق, يلتقيان مرة أخرى بحمدة. مر الزعيم أمامه وكأنه كم مهمل. حمدة لا يهتم بالحب والسياسة , كان الزعيم متطاوسا, لا يسعه هندامه الأوربي زهوا. كان سمينا, حركته أقرب إلى الخيلاء منها إلى حركة الثخانة.

لم يكن مضى على الاستقلال زمن طويل, لكنه لم يكن طائرا قادرا على اقتطاف الثمار في أعالي الأشجار. كان أشبه ما يكون بالطيور الدجنة التي لا تطير, وإن طارت لم ترتفع بعيدا عن الأرض, لتعود إليها في لحظات مسرعة. الزعيم كان يعلل خسارته بالنظافة والطهارة الوطنية, ولذلك كان يرى فيها مبعث زهو وافتخار سري تجري أنهاره بينه وبين نفسه, وهذا هو السبب الذي جعل الناس يلاحظون أنه ازداد عظمة في الظاهر عن حاله قبل الاستقلال. لقد أضاف زعيمنا إلى كناش خياله اعتقاده أنه هو الذي طرد فرنسا من بلاده, وأنه مترفع على الولوغ في الأوساخ التي انجر إليها غيره بعد الاستقلال. ذلك الاعتقاد كان وراء اصطباغ زهوه بغشاء رقيق من الزهد ونكران الذات, لكنه زهو سرعان ما ينبثق من بين مسام الغشاء, حين كان يخرج إلى طريق من طرق فاس القديمة ليتجول بين الناس. كان زهوه يبدو في عجرفة خفية كالطلاء المستولي على عينيه ورقبته, في زيه الأوربي عندما يلتفت يمينا وشمالا ليحيي بعض أتباعه, أما بقية المارة لا يلتفت إليهم وربما حياهم على مضض.

كان حمدة هو أيضا يعبر نفس الأزقة, من طريق النخالين, لكن لم يكن له في الوطنية لا ناقة ولا جمل ولا حمار. شاهد المغرب قبل دخول فرنسا, وعبر زمن الحضور الفرنسي, ثم شاهد عهد الاستقلال. كان ذلك كله في نظره مراحل متتابعة, لم يكن متحيزا لأحد, أقصى ما كان يطلبه من الحياة أن لا يظلم هو ولا أحد من أهله, فإذا ضمن ذلك فلا فرق عنده بين الأشقر والأسمر, وبين المغربي والفرنسي. ذلك لأنه لم يكن قد شاهد قبل دخول فرنسا عدلا وغنى, بل كان يرى الظلم والفقر. كان يرى أهل فاس كالقاصرين الذين لا يطلب رأيهم, ولا حق لهم في شأن من شؤونهم العامة, ولا في الكلام الحر المجرد عن الخوف وسوء العاقبة. فلما حلت فرنسا في البلد أبى أن يرى فيها شرا أعظم من الشر الذي عرفه من قبل. لم يكن عارفا بسير الزعماء, ولا بأخبار الحركة الوطنية. لم يكن مؤيدا لفرنسا ولا للزعماء, ولذلك لم تعلق بذاكرته صور للزعماء. مر الزعيم بجنبه ككم مهمل, لا علم له بشكله, لذلك فخطواته قاطعت خطوات الزعيم المتطاول في طريق النخالين كحالته مع كل ماض وآت. لم يحرك فيه ساكنا, لم يمثل له فخرا ولا عظمة, ولم ير فيه سوى جسم ضخم امتلأ شحما.

يكتب لنا الزعيم بعد سنوات, فنقرأ و نسر و نفرح. لا علم لنا بتاريخ مزور يكتبه الغلبة؟. هم مقاولي الحركة الوطنية؟ ما أجمل أن نعرف الزعماء ونحن صغار في المدرسة. نحفظ التاريخ, فتدمغ في ذاكرتنا أسماء بعينها و تنمحي شخوص بشرية اختفت مرة واحدة. يكتب الزعيم عن حركته ويصورها كما لو كانت تملأ أسماع الناس. الجماهير الشعبية تردد كلمات في كتابه, تقر السياسة وتنفي الحب, بينما الحب والسياسة متكاملان متجاوران. يكتبون التاريخ فخرا لزعماء صنعوا أنفسهم ولم يصنعهم الجماهير.

الكلمات تتردد في مذكراته كأن المغاربة كانوا فيما بينهم سمنا على عسل. يختفي العملاء, يختفي حمدة الذي لا ناقة له ولا جمل ولا حمار, وكأن كل أهل فاس وأهل القرية عارفون بحركاته, منذ رحيله إلى باريس لدراسة البوليتيك, حيث أصبح متضلعا في علم السياسة وعمره لا يناهز الثلاثين, إلى أن عاد زعيما في لحظة. سأله مؤرخ بارز في علم السياسة والحب:

هذا أمر مشكوك فيه؟.

فظهر على وجهه آيات الاستكبار وقال:

كنا شبانا ولكن حركتنا كانت تنتشر كالنار في الهشيم…

أحس المؤرخ بأن الزعيم يرى أنه ولد زعيما مثلما يولد الملوك والرؤساء. تصيبه الدهشة, كيف أمكنه في الثلث الثالث من القرن المنصرم أن يستولي على أدمغة المغاربة المساكين؟. كيف استطاع أن يلغي الكهول والشيوخ والأعيان والشرفاء الذين سكنوا فاس أول القرن ؟. ما كان من المؤرخ إلا أن كتب كتابه مناقضا لما زعم الزعيم من تربعه على عرش الزعامة, فدحض زعامته. كتب المؤرخ في بداية هذا القرن قال:

إن الزعيم ينظر إلى الماضي في الثلث الأول من القرن المنصرم, ينظر إليه من موقعه الجديد. لقد أصبح زعيما من وجهة نظره, وأصبح نصف زعيم عند العامة وملغى عند آخرين مثل حمدة. كثير من الخيال والغطرسة والتفوق يستولي على قلم الزعيم عندما يكتب مذكراته. الأحداث غالبها كذب, صنعها من الخيال. مثلا يوهم القارئ في حكايته أن اجتماع فلان وفلان في عدد لا يجاوز سبعة أفراد ببيته حدث مهم وتاريخي, وأن له أثرا بليغا في مجريات الأحداث بعد ذلك, وأن كل الأحداث المعاصرة له كانت منضوية تحت لوائه, و…. هل يظن أن مثل هذه الحوادث الشخصية تغير التاريخ؟. ألا يرى أن المحايد, من بعض الرجال المعاصرين له, لا يعير مثل هذه الأحداث اهتماما, ولا يدعون زعامة مثل حمدة.

ينتفض الزعيم من قبره وينهر المؤرخ ملوحا بعصاه, يقول له:

أنا زعيم على رغم أنف أمك وأبيك. الجرائد والأخبار تعترف لي بذلك, بل إن المؤرخين أنفسهم يعترفون بزعامتي, أما قرأت ما كتبه المؤرخ كذبان؟.

يرد المؤرخ في عجلة:

إن هذا المؤرخ ليس مؤرخا على الحقيقة, إنما هو مستفيد منك يؤدي ثمن استفادته. إن من كتب عنك هو فريسة من فرائس كتاباتك الوهمية المتطاولة على الزعامة. إنك لا تستطيع أن تبرهن على الأهمية التاريخية للحوادث الشخصية التي تتعرض لها؟. قد نعترف بأن سجنك حدث تاريخي, لكن لا نستطيع أن نصدقك في تأويلاتك, كادعائك أنك كنت خطرا على الاستعمار, أو أن الناس ما تململوا إلا بأمرك, أو أن الصيرورة التاريخية كانت رهنا بدخولك و خروجك من مراكز الحزب أو من دارك.

منى تتدخل في غضب أنيق:

أين اختفت السيدة كنزة في كتاباتك؟

الزعيم لا يعير كلامها اهتماما. يدخل مكتبه, ينتهي من كتابة مذكراته ويفسر التاريخ من خلال ما بدا له نقيا. يكتب خوفا من أن يداهمه الموت, يكتب… تختفي كنزة.

منى لا تفقه علم السياسة, و لا تعرف الزعيم, لا تحب الزعماء. المضحك في كنانيش حوادث الوفيات هو أن الروح الخرافية تمتد من الجهة المستفيدة منها إلى قلم المؤرخ, فترد على قلمه حقائق مخترعة عن زعامات تاريخية. يجب أن نعلن عن تزوير التاريخ وأن نصرح بكراهيتنا للطغاة والكاذبين من الزعماء. كلنا زعماء. منى تكره السياسة.

مؤرخ آخر يكتب عن الجملوكية . الجملوكية ظهرت منذ نهاية القرن العشرين … ” منى لا تهمها الجملوكية, هذه مناصب يتسابق عليها الرجال ويستثمر فيها الجملوكي داء السلطة وجنون العظمة. أين اختفت كنزة؟ لم يذكرها التاريخ. هي حقيقة تنسج قطعة صوف, ترغب في حملها إلى الزعيم الذي نسي أن يذكر اسمها في مذكراته.

اللغوي يتطاول على التاريخ, يحاجج منى ويناقش المؤرخ كذبان. يدخل في حوار طويل معهما:

اللغويات والسياسة… بعض الجهات لا تميز بين لفظ الحركة الوطنية والأحزاب الأولى للحركة الوطنية, ولا تميز كذلك بين الأحزاب غير الوطنية والأحزاب الجديدة في الحركة الوطنية, والجمعيات النسائية.

منى هي الأخرى لا تميز بين الحركات والجمعيات, لم تزامن هذه الحقبة التاريخية . ليست فقيهة في علم السياسة. عندما أصبحت عضوا في جمعية نسائية يسارية كانت تلوذ للصمت, السياسة تخيفها. يقول لها صاحبها :

لا بد من الفصل بين تلك التركيبات والجمل إن شئنا إقامة صفاء لغوي في الحوار السياسي المغربي. هل يساوي معنويا لفظ الحركة الوطنية لفظ الأحزاب الأولى للحركة الوطنية؟ الجواب هو لا ونعم. يتساوى اللفظان إذا نظر إلى الحركة الوطنية باعتبارها كيانا ميتافيزيقيا جامدا, في هذه الحالة تكون الحركة الوطنية شيئا وهميا متصورا يتوارث, وتكون أحزاب الحركة الوطنية أحزابا ذات كيان أنطولوجي لا تاريخي.

يطرح على منى بعض الأسئلة وهو متأكد من جهلها التام بالسياسة وبالحركة الوطنية:

هل الحركة الوطنية كيان ميتافيزيقي؟. هل الأحزاب كائنات مكتملة في الزمن والمكان ومتنقلة بكيانها الثابتة بين العصور؟. إذا كان الجواب منساب دون تفقه في علم السياسة, فلا تعادل بين اللفظين ولاحق لأحد في استعمال الحركة الوطنية والأحزاب الأولى للحركة الوطنية بمعنى واحد. إذا كان ذلك صحيحا فلا معنى أيضا للخلط بين لفظ الأحزاب غير الوطنية الجديدة في الحركة الوطنية. نلاحظ أن الأحزاب الجديدة في الحركة الوطنية لا تغدو مصطنعة في إدراك الغافل عن هذه الفوارق إلا حين يؤمن بميتافيزيقية ولا تاريخية الحزب والحركة الوطنية. حين يؤمن بذلك ينقلب إلى نائب عامي طاردا أبناء الشعب ومن ضمنهم الطفلة التي تلفت في ساحة الهديم, وكنزة التي نسجت الصوف, و الطاهر الذي خرج من الزنزالة بمخالب تشبه مخالب الأسد. والطالبات العاريات في الفاركونيت من ظهر المهراز .

منى تجادله:

الدوشات في الحي الجامعي بظهر المهراز تؤرخ ثورة نسائية صامتة , الأبواب كسرت مازالت رقع الخشب شاهدة على الحدث .

يقول لها وهو بعيد عن تدكراتها لظهر المهراز :

المؤرخ يمارس الاعتداء على التاريخ, لأنه ملتزم بالموقف الميتافيزيقي الجامد. ينسى أن الحزب والحركة الوطنية من صنع بعض الناس, ويتلذذ باعتقاد العكس. تراه يعتقد أن الناس جميعا نتاج الحزب والحركة الميتافيزيقية وأن كل من يمارس تأسيسا جديدا لحزب جديد يتمثل فيه نهر من أنهر الحركة الوطنية التاريخية, إنه يرتكب جرما مشهورا. هل تستطيعين أن تضيفي إلى لائحة حقوق الإنسان صياغة صريحة تثبت حق الإنسان في تأسيس أحزاب جديدة, بل تأسيس حركات وطنية دون التعرض لإدانة أنصار المواقف الماهوية؟. حينما نقول سنة 1990 أن الحزب الفلاني هو الحزب المؤسس للحركة الوطنية, لا ندقق بذكر تاريخ إحداث هذه الحركة ولا بذكر تاريخ نطقنا بذلك الحكم, نفعل كما لو كان هذا الحزب شخصا مستمرا في الزمن وكما لو كانت الحركة الوطنية سلعة مؤسسة منتهية. ما سبب هذا الانحراف اللغوي؟. سببه أننا لا نفرق بين الألفاظ الدالة على القصص والألفاظ الدالة على الأشخاص. لاحظي معي أن الشخص نفسه هو قصة, لكن قصة مكينة ممثلة في الكائن الذي تشخص وتميز وأصبح في الأخير زعيما متغطرسا. إن الزعامة قصة يصنعها الزعيم ويشاركه الآخرون في صناعة زعامته, ولهذا لا يصح القول بوجود زعامة أو حركة وطنية إلا إذا كشفنا بعد مماته الجينات التي جعلت منه زعيما دون غيره.

بعد سنوات تغيرت الظروف, وخرجت فرنسا من البلاد وتطورت الصناعة.هذا ما كان يفكر فيه عبده, ويؤمن بحدوثه . ويردده في نفسه. كان يتعجب وهو يستمع إلى الأخبار التي كانت تصله عن زعيم المستقبل.

صار هذا الزعيم رجلا معروفا, وغدا صوتا مسموعا, وعرضت عليه – فيما زعموا – مناصب الوزارة احتفاء بزعامته. كانت تلك الأخبار إشادة بنضاله الذي أقض مضاجع المستعمرين واضطرهم إلى الرحيل, لكن ما تحكي كنزة ظل موروثا ثقافيا يتناسى مع نسيان الأموات وتبخر في الهواء. هي لا تعرف أن تدمغ حروفا على الأوراق, ولا يشهد لها المؤرخون بتسجيل اسمها في انطولوجيا أعلام الحركة الوطنية. تنسج الصوف لتدفئ الزعيم, تصمت, لا تتكلم.

كان عبده, في النصف الأول من القرن المنصرم, يرى بين التواريخ فوارق شاسعة, الخيال مشحون بالكذب. هو الآخر مثل النساء لا يعرف صناعة التاريخ. عبده كان يردد تأملاته في نفسه وهو متعب بثقل السنين. كان لا يتخلص من الضيق إلا بالرجوع إلى ذاكرته, متطلعا إلى مكان هو وأخوه محمد يستقبلان فيه الزعيم بين صراخ الباعة ونهيق الحمير في سوق القرية الجميلة صباح كل يوم الاثنين.

بعد الاستقلال يلتقيان في قبة البرلمان, لا يتحدثان, يعرض زعيمنا بظهره كبرا في أنفة وأناقة مبالغ فيها. صيف 1963 الزعيم أصبح شيخا متألقا, وعبده في أوج شبابه زاهيا, كل منهما يركن في كرسيه فخرا. ينام بعضهم وآخرون يرفعون أيديهم ويصوتون ب ‘نعم’. لا يفقهون في علم السياسة.

والد منى محمد يحكي لها عن التعليم في قريته:

التعليم الفرنسي خطط له منذ بداية سنة 1923 لينشئ جيلا مؤهلا لتسلم مناصب إدارية باللغة الفرنسية في ظل الأعراف التقليدية. استبعد من هذا التعليم تلقين العربية والدين الإسلامي, وركز فيه على اللغة الفرنسية والتوجهات السياسية. كتب عن هذا التعليم المقيم الفرنسي ‘اليوطي’ نفسه في نشرة وجهها إلى رؤساء النواحي الفرنسية. قال: “إن الهدف من إنشاء المدارس الفرنسية هو تطويع العنصر الأهلي الأمازيغي والاحتفاظ له بكيفية سرية … لكن مؤكدة بالفوارق اللغوية والدينية والمجتمعية التي توجد بين بلاد المخزن المتميزة بإسلامها وعروبتها, وبين الجبال الأطلسية التي لا تعرف العربية”.

يحكي والد منى عن حاله عندما كان صبيا بالقرية يترد على ليكول وفي نفس الوقت على المسجد. كانت أسرته الشريفة, الشديدة التدين, تمانع تعليمه الفرنسية في ليكول, ولحسن حظه أو لسوئه, أن أسرته ميسورة قادرة على دفع الجزية للمقيم الفرنسي بالقرية حتى لا يلتحق صبيها بليكول ويلتحق بالمسجد. لكن محمد كان يخرق الاتفاق ويصحب بقية الصبية الفقراء إلى ليكول. يعجبه الحديث باللغة الفرنسية, لكن يشعر بشيء في أعماقه يشله من بين زملائه ليحفظ القرآن الكريم ويخط حروفا عربية.

يقول لابنته منى:

كنت أصاب بقلق شديد لأنني أحببتهما معا. لم يكن لي ضرر في تعلم الحروف العربية والحروف اللاتينية, لكن كنت ألقى زجرا وتعنيفا عندما يصل خبر دخولي إلى ليكول لأسرتي. يختلط علي الأمر وأخاف.

عم منى يحدثها عن شرفاء القرية الجميلة, يقول لها يوما:

هذه القرية هي منفى أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم. نزحوا إليها ليحتموا بغاباتها وجبالها, وهم قوم قلة. دفنوا فيها, و قبورهم بطحاء يكسوها التراب, لا توجد لهم قبة ولا زاوية. جاء إلى هذه القرية أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم. فاطمة الزهراء قالت: “الأمازيغيون خير من يعطف على أبنائي ويكرم مثواهم.”

منى تذكر أحاديث عمها عبده :

لم يكن الخليفة الأموي يدعي أن ملكه يقوم على أساس الدين, ولا يعتبر نفسه حارسا للدين. كان الدين يتمتع باستقلال شبه تام عن الدولة. القضاة كانوا مستقلين في قضائهم, والعلماء بالكتاب والسنة يؤولون ما استعصى حله, إلا من كان منهم في خدمة الأمويين متحيزا لهم. كان كل إمام وكل قاض يجتهد ويفتي في اجتهاده, ولم يكن للخليفة أو عماله أي سلطة علمية, إلى أن قامت الدولة العباسية, وكلف أبو جعفر المنصور فيما يبدوا الكاتب المعروف ابن المقفع بوضع تقرير يقترح فيه ما يراه ضروريا لتوطيد أركان الدولة, فكتب رسالته الشهيرة ‘رسالة الصحابة’. هذه الرسالة كتاب صغير الحجم عظيم الفائدة نصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه وحسن سياسة الرعية. كان في نصحه رقيقا غاية الرقة, وكان ينتظر من المنصور تقديرا أدبيا وماديا يليق بجهده, ولعله لم يتصور أن مجرد إسداء النصح للمنصور يعتبر جريمة يستحق عليها قطع أصابع يده وشيها على النار أمام عينيه, و إ طعامه إياها مجبرا…

منى تردد في نفسها :

– خي فيه.

لقد عرف أبن المقفع بكراهيته للمرأة واحتقاره للنساء, في قوله: “أنهن لا يتجاوزن الاعتناء بجمالهن. ولا تملك أي امرأة من الأمر ما يجاوز نفسها, فإن ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها و أدوم لجمالها, وإنما المرأة ريحانة وليست قهرمانة…”

منى تردد في نفسها:

حقا لست قهرمانة ولا سلطانة ولكني إنسان.

منى تداوم على تذكر أحاديث عمها عن التاريخ, يقول لها:

كسرى انوشروان تولى الملك في ظروف كانت فيها الدولة الساسانية تعاني من الضعف والانحلال, و خصوصا بعد أن تحالف والده قباد, الذي تولى الملك سنة 488 ميلادية, مع أتباع المزدكية ضدا على الأرستقراطية الفارسية التي كان يشك في ولائها وإخلاصها. كان رجل دين من أتباع الزرادشتية وقد مال إلى جانب الفقراء والمستضعفين ضدا على ملاك الأراضي والنبلاء وطبقة خاصة من المترفين. وكان يرى أن أصل الداء في المجتمع وأصل الاستقلال والحروب, هو الجري وراء الثروة من جهة والتعصب للنسب والحسب من جهة أخرى. لذلك دعا إلى الشراكة في الماء والنساء, وذلك بجعلهما من الأمور المشاعة بين الناس.

يدخل أسد ويشل خيط استحضار تذكرها, يقول لها:

ماما, ماما الماء ملك مشاع. ماما ثلث الاحتياط العالمي من الماء يوجد بكندا. ماما, الماء لا تدفع له فاتورة, الماء مجانا, كندا مخضرة رائعة. ماما اعرف أن العشب الأخضر يعجبك, يذكرك بقريتك الجميلة, لكن هنا لا يوجد شجر الأرز. ماما تعلمين أن إليزابيث ليست ملكة على بريطانيا فحسب ولكن على كندا أيضا. تعلمين أن النساء في كندا يتمتعن بحقوق كثيرة ولا يشعرن بالخوف.

أسد يسترسل في الحديث عن كندا, منى تنجرف وراء هلوستها. لو كتبت ابنتها رهام, الشاعرة المغتربة, بكندا قصيدة للملكة مثل ما فعل الشدياق الذي مدح فيكتوريا بقصيدة وقدمها لضابط البلد,- و الضابط وكلها لزوجته لتهديها إلى بعض الخواتين القائمات بخدمتها, وترجمها أيضا إلى لغتهم- لو كتبت رهام قصيدة لرفع الحصار على بغداد وصديقتها العراقية المغتربة دنيا جات.

يشتد قلق منى, وتخرج لتعبر العشب الأخضر . عندما تزور كندا تعرف الحب والسياسة. يشتد قلقها, تعرف أن بلدها يعرف الجفاف. تدخل إلى سكن ولدها أسد بالحي الجامعي لافال, الألم يعصر جسدها, الجفاف ببلدها. تقترب من الموت.

عرفت منى الموت يوم انتزع منها والدها, تذكر كم حضنته بجوارها, وقبلت يديه, و دعكت ظهره ورجليه بلطف وحنان. كان يحكي لها وهو في نهاية شيخوخته الناضجة عن تفاهة الحياة. احترق قلبها لما علمت بخبر موته وهي بمصطاف المضيق. مرة أخرى يعود الموت, لم يحترق قلبها بل انتزع من مكانه, ماتت أمها . توفيت في غفلة, اختفت وهي في أشد قوتها وبهاء جمالها. كانت في بداية الشيخوخة أنيقة وجميلة, لم تخر قواها بعد. انتزع من منى قلبها وشعرت بلهيب بداخل صدرها. استمر اللهيب أكثر من شهر, فذهبت للطبيب صحبة ابنتها آية. فوجئت بعد الفحوص بالأشعة أن لا شيء يحترق بصدرها, النار وهم وخداع. منى تشعر بالنار تلتهم صدرها تحترق. يقول لها الطبيب:

يجب أن ترحلي إلى بلد بعيد.

منى اليوم عند ولدها بكندا. الماء, تعبر العشب الأخضر بكبيك العاصمة وتكتشف تفاهة الحياة, تكتشف أنها لا تستطيع قراءة التاريخ المزور. الحقيقة يفصح عنها ‘الدم’ المنساب على الأرض. كتابة التاريخ يجب أن لا تحدد بأسوار السلاطين ولا بأهرام الفراعنة. التاريخ شبيه بالرقص والموت والدم والحريق و الماء… وأشياء أخرى لا نعرفها مثل الرقص و كرة القدم, نرغب في مشاهدتهما. منى لم تشاهد الرقص ولا كرة القدم في تجلياتهما الكبرى, الذي شاهدته حقيقة هو الموت لأن حريقا شب في قلبها واستمر اللهيب أكثر من شهر. المكاشفة للموت هي أعلى درجات الحب والسياسة. منى معجبة بأمها لأنها كانت فاتنة أنيقة تغني أغاني اسمهان: ‘هل تيم ألبان فؤاد الحمام.’ ما أصعب أن يوارى الجسد التراب, فأمها قطعة منها. يغرق الجسد في التراب, فيشتد اللهيب بصدرها, لقد حصلت المكاشفة. مكاشفة الموت عندما انتزعت منها قطعة من جسدها, تختفي الأم, يختفي الماء, ويشتد الحريق. تدخل وسط التراب, وتدخل منى وسط الستائر رفقة أخيها و تشتد الغواية, غواية اللعب, تتم المكاشفة وتكتشف الموت في غور لظلام. الموت والحياة حقيقة. تلتقي في ود وحنان عارم وسط الستائر, يشد ها أخوها, لا تسقط الستائر الثلاث. تعرف الحب تعرف السياسة.

أي حكاية تحكي منى؟. علمها صاحبها نزع السحر عن العالم. كشف لها ذلك في ظلم وخير معاشرته, وعتم وإشراق حواره. علمها مواجهة الظلم والعتمة, وخرق المحرمات و… لكنه لم يعلمها نزع السحر عن الحب والسياسة؟.

منى خائفة, تحكي عن ركام الماضي المبعثر, تحكي عن بقايا تاريخ مزور, تحكي أن الأرض قطعة واحدة مركزها إفريقيا. القارات الخمس كذب, فالأرض قطعة واحدة حصل فيها تغيير منذ قدم التاريخ. تغيرت الأرض وأصبحت خمس قطع خلقت حدودا. خمس قطع محددة بالدم الذي تسرب على التراب الطاهر إثر حروب عجاف. الأحمر الذي تسرب على الأرض يحكي التاريخ. منى تحكي التاريخ الحقيقي الذي أصبح نسيا منسيا. ينسكب الدم قطرات من الشمعدان, تسمع قطرات الدم بنت السلطان, تتكلم؟. منى تتساءل: لماذا تكلمت بنت السلطان عندما سقط الدم؟.

توفيت كنزة, وتبخر التاريخ, لا تاريخ لها. توفيت صباح يوم الخميس في شهر شعبان بمدينة سلا. منى تشهد التهيؤ الأخير لمراسيم الرحيل. تنقل كنزة إلى القرية الجميلة للدفن , يتم تشييع جنازتها في الدار الكبيرة, وقد شيع قبلها أخوها عبده, نقل هو الآخر من فاس إلى القرية الجميلة, ليدفن بجوار رميم أحفاد سيدتنا فاطمة الزهراء. والد منى توفي بمدينة الرباط يوم الخميس في شهر شعبان. والد منى يمتلك العالم, يعرف أن الأرض قطعة واحدة, يوصي قبل مماته أن يدفن بأي بقعة أرض وجد فيها, لا فرق عنده بين مدينة وقرية, يعتبر التشبث ببقعة معينة خرافة ووهم. يملك كوكب الأرض, يحب الأرض, ويعرف يقينا أن لا حدود جغرافية تفصل بين البقع. دفن بجوار الشاعر الكبير الذي كتب له أبو أسد الشاهد على قبره. منى تداوم على قراءة شعره, ‘اختفى مرة واحدة’. رافقهما يوما إلى القرية الجميلة لحضور عرس أبناء عمها, ثم أسرعوا بالعودة عندما جاء منى المخاض وعادوا إلى فاس. عبروا الطريق الممنوع لكن ألسنة الحديد كانت تحول دون العبور. جاءها المخاض والوجع اشتد, تصرخ. يوقف عبورهم الشرطة, يلعن الشاعر الشرطة وتبيض عينا أبو أسد من الخوف.لا يقوى على مواجهة تحقير الشرطي للأستاذ. ألسنة الحديد تمنع العبور. منى جاءها المخاض, تشد بساعد صاحبها و تعضه من شدة الألم, الشرطي لا يرحم. الشاعر المعتد بتحزبه يحرض أبو أسد على العبور ويشتم الشرطة والحكومة. يصلان إلى باب مصحة الولادة, تسقط آية قبل الدخول إلى غرفة الولادة. منى ترغب في أن تسميها مي. يخبرها صاحبها أن صديقه اعتقل لتمرده على رجال الأمن. يدخل عمها عبد يخبره أبو أسد باعتقال زميله الشاعر, فيقول مازحا:

سأعرض الحدث في قبة البرلمان.

يخرج عبده وبيده ديوان شعر, يفكر في رواية الحدث للزعيم عندما يلتقي معه في قبة البرلمان, لكن الحدث أصبح نسيا منسيا. يعم البلد خوف رهيب فالكلام ممنوع في السياسة.

ينتشر خبر ولي صالح دون كرامات. لا يخترق الجدار ولكنه يخترق اليأس, يأس الجائعين والعاطلين والطلبة العزل. يخرجون للشوارع, ينتظرون برنامجا يحول الأرض إلى فردوس وتنتهي سنوات الجمر. آخرون يتبركون بالقبة, ويقبلون الحجر كأنهم يحرزون على شهادة البراءة من المخالفات النفسية والجسدية. شعورهم بالذنب ومخالفات قواعد الحشمة والحياء يجعلهم يتشبثون بالحجر. يبكون ويشهقون فيتسرب الدمع إلى روافد تصل إلى نهري دجلة والفرات. يشتد التضرع في القمم العربية ويخرجون للشوارع متضررين, يترجون تغيير الأحوال.

الفصل الخامس

السروال كولف والحداء ذو الكعب العالي

زهور تقفز حفيدها أمين و تغني له:

سيدي والله سيدو, كل من في الدار عبيدو, حتى لاله وبا سيدو.

تحضنه إلى صدرها, يفتح العقاد, تتسلل يده إلى ثديها و يخفق قلبه فرحا. الجدة تحب أمين أكثر من باقي أحفادها وذلك لأنها هي التي سمته برغبة منها أمين. تذكر أن أخاها حمل معه من القاهرة, بعد أن أدى مناسك الحج, كتابا أحدث زوبعة عند طلبة القرويين الذين كانوا يرجون استنساخه. هي تتعجب لرواجه بينهم. يقول لها أخوها:

هذا كتاب لقاسم أمين.

يعلمها حروفا على غلاف الكتاب. ترسخ بذاكرتها الحروف ت ,ح ,ر, ي , ر. تبتسم وهي تذكر ضحك الطلبة على أمها للا فضول التي كانت تخرج من المطبخ عندما يعلوا صوتهم وهم يتنازعون حول كتاب قاسم أمين. تسمع كلمة امرأة, تقول لهم:

كفا من المرقة [1].

يضحكون لخلط المرقة بالمرأة. تذكر أنها كانت ترغب في أن تسمي ولدها أمين و زوجها يمانع رغبتها . ظل الاسم عالقا بذاكرتها, تتزوج ابنتها, لا يمانع صهرها في التسمية سمت حفيدها أمين.

كانت منى تتأخر في النوم خلال عطلة الصيف, وعندما تستيقظ تشاهد جدتها تقفز أخاها و ترغب في أن تقفز مثله. تسمع صوت نسوة يغنين بباب الدرب. تخرج فتشاهد حلقات النسوة يغنين و يزغردن فرحا. الزغرودة تعجبها, تسمع أصوات النساء تعلو الفضاء فتشتد دهشتها. النساء خارج البيوت. يستوي نظرها على السروال المدرج بالدم, النساء يزغردن بصوت عال و الرجال يسمحون لهن بالزغردة والرقص والغناء. سروال بلدي قندريسة أبيض مدرج بالدم, بداخل صينية نحاسية, فوق رأس امرأة تطوف به وسط الحي. النساء يزغردن ويرددن كلمات لا تفهم معناها الطفلة منى:

هكا يكونوا بنات الرجال المحظيات.

لا تفقه شيئا, لكن الرحالة الفرنسي جان موكي يفقه كل شيء. يعرف أن النسوة ببلد المغرب يطفن بالسروال منذ زمن قديم. يقول:

في عام 1601 شاهدت النساء يحملن سروالا مضرجا بالدم و يطفن شوارع المدينة, ليعرف الجميع أنها عذراء.

أصوات النسوة يزغردن و يرددن بأصوات متناغمة:

أللا بنت الحرة في يد الرجال محظية.

سيدة ترقص بالصينية فوق رأسها, تنزع يديها و تتمايل على رؤوس أصابع قدميها, تلتوي كالحية و لا تسقط الصينية. تشتد دهشة النساء. تحط الصينية أرضا. ترمي كل سيدة ورقة عشرين ريال. تندس الطفلة منى وسط النسوة تدفعها كافلهن فتتمسك بالأرض. تتمكن من مشاهدة سروال قندريسة مدرجا بالدم عندما تتقدم إلى الأمام . يشتد روعها, تخاف الدم. الدم عندها مرتبط بصراخ النساء وبساحة الهديم. تدخل البيت و تسأل والدتها عن سر هذا التناقض. الدم في ساحة الهديم مقترن بالحزن والألم, والدم في حي الدريبة مقترن بالفرح والمسرة, أي عجب هذا ؟. تعيد السؤال:

ما سر هذا السروال المضرج بالدم ؟.

تقول لها في عجلة وبصوت خافت:

خرجت الصبوحي.

منى تعلم من خلال خفوت صوت أمها أنها لا تريد تفسيرا, وأن السؤال فيه قلة الحياء. تعلم ابنتها أنها لو عاودت السؤال لكان يوما عصيا على الذكر, ولرسمت على فخذ ها قرصة زرقاء تظل قائمة مدى الدهر. منى تلحق ببنات خالها وخالتها لتلعب في الممر الأسطواني

بنت خالها تمسك بكرة صغيرة. تضربها على الأرض, ترتفع, تمسها بكفها و تعود أرضا. تردد:

أن كنار سيتويو سي زن لوكوان

تسمع لغط البنات وسط الحي. تندس بينهن و يلحق أخوها أمين وسطهن. منى تذكر أن المعلمة حفظتهن القاعدة النحوية. قالت:

نخاطب جماعة الإناث بلفظ الجمع المؤنث, وإذا لحق بجمع المؤنث ذكر يتحول جمع المؤنث إلى جمع المذكر.

منى تحفظ القاعدة النحوية, لكنها لا تعرف ذكر أنثى. هي في صحبة دائمة تلعب مع الذكور والإناث. يتشابكان الأيدي و يمر باقي الأطفال ذكورا وإناثا, يرددون:

PASSE PASSE PASSERA LA DERNIERE LA DERNIERE

PASSE PASSE PASSERA LA DERNIERE RESTERA

في حلقة أخرى يرددن:

Napoleon- ET MOI LA SAINTE HELELENE

LA SAINTE HELENE ET MOI NAPOLEON

SI TU VEUX FAIRE MON BONHEUR

SI TU VEUX FAIRE MON BONHE MONA DONNE MOI TON COEUR DANS UN POT DE BEURRE

TOUT CHAUD TOUT FROID

LA SEMELLE DE MON SOULIER TOUTE TROUEE.…

. تمسك بحبل المطاط وتنط:

OH MAMAN J’AI MAL AU COEUR

UN PETIT VERGER EN FLEUR

C’EST MA SOEUR QUI M’A FAIT PEUR

يشتد لعب منى بالحبل المطاط فتلحقها والدتها وتنزع الحبل من يدها. تقول لها:

سينزل صباحك؟

تدخل باكية إلى المطبخ, تمص ليمون حامض. تنزعه منها وتقول:

سينزل صباحك أبيض إذا مصصت الليمون.

تشدها و تسمرها بجنبها. نادية بالقرب من أم منى, الحديث يروج بينهما عن الموضة والألوان. يزاوجان الألوان لإيلاف الثوب بثوب آخر في تناسق جميل مدهش. يفسد عليهما هذا التوهج الجمالي للألوان صوت النسوة بباب الحي. تقول لها نادية:

أبعد الله من الحي أهل البادية. عجبا منذ الصباح الباكر وهن يغنين بالسروال المدرج بالدم؟. عندما كنت صغيرة لم يكن يسكن بجوارنا أهل البادية؟. الآن يتجمعن مثل النمل؟. السروال مدرج بالدم هذا عيب؟.

أجابت أم منى قائلة:

هذه طقوس الزواج في البادية, الشيء الذي له قيمة هو الدم. ألم تسمعيهن يرددن أخرجت السروال, أطالت الرقبة و حمرت الوجه.

تنبه أم منى زوجة أخيها إلى أنها أحضرت المقص والسنتيمتر كي يكون المقاس دقيقا عند التفصيلة. تخبرها أن جاكلين, جارتها الفرنسية, علمتها كتابة الأرقام, وأنها تكتب من آن إلى سواسنت. اندهشت نادية عندما أمسكت قطعة القماش وقالت لها:

هذه كاتر متر مع زيادة, لا تقولي ثمان أذرع. أنت يا زوجة أخي لست طويلة القامة مثلي, سأفصل من هذه القطعة قميصا وسروالا. القميص على حد طولك والسروال كولف قصير حد الركبة.

كشفت عن ساقيها, ملفتة نظرها إلى مقاس الموضة الجديد و مستهينة بقلة معرفتها للموضة قائلة:

يا زوجة أخي أنا لا أحب سروال قندريسة [2] , إنه ليس موضة, يذكرني بفضيحة للا الشريفة زوجة أخ صاحبي. عندما كنا في الأسبوع الأول من زواجنا, كان من عادة وجهاء القرية أن يحتفلوا بضيوفهم فهيئ لنا حفل بدار القاضي. كانت الشريفة تضع على شفتيها عكار شديد الحمرة, وتلبس قفطان الدنيا جات [3], و سروال قندريسة. لما أقبلت, وضعت رجلها اليمنى على عتبة غرفة الضيوف فسقط لها سروال القندريسة, لأن التكة لم تكن ممسكة على خصرها جيدا. انطلق النسوة يتغامزن ويتضاحكن. أنا بخلاف للا الشريفة يا زوجة أخي, كنت قد وضعت العكار خفيفا , وضفرت شعري ضفيرة واحدة إلى الأمام وأمسكتها بقطعة ستان يحاكي لونها لون قفطان لابيسين المطرز بخيوط موبر أبيض ملفوف بسبائك من الفضة, ومنصورية مارشال لونها سبطي , وقميص جوهرة أبيض.

تقطع كلامها نادية, وقد استبدت بها الغيرة لشدة تباهيها بجمالها الفتان وأناقتها الباهرة:

– أنا جئت هذا الصباح لأفصل معك السروال كولف لا لسماع حكايات للا الشريفة.

تصر أم منى على إنهاء حديثها و تقول لها:

عند قدومنا كانت سجادة الحج الرقيقة من الحرير اللامع قد وضعت في وسط الغرفة الكبيرة احتفاء بقدومنا. الشريفة متغطرسة و لا تسعها السماء, في أتم زينتها. الأمازيغيات يرتدين لباسا بسيطا . ينزعن الحنديرة من فوق أكتافهن يضعنها جانبا تظل المزونات الفضية تلمع . يبدو لباسهن شفافا رقيقا أشد بياضا من نوع الثليجة, منسوجة من الحرير الحر , تسمى الشقة. يزين الخصر بحزام موزون من الفضة. كنت كثيرة الحركة في مكاني فيظهر سروال الكولف الذي ينحسر عند الركبتين و تنكشف ساقي. أشعر أني أكثر جمالا من باقي النسوة. أذكر كلمات النكافة عندما كانت تصرخ بصوت عال و تشهر بجمالي الفتان الحقيقي:

– هذا قضيب الخيزران

هذا الياقوت والمرجان

هذه الألماس الحرة .

تبدو نادية ساخطة ومتبرمة من غرورها بجمالها. تلتفت إليها أم منى و تقول:

نادية اسمعي لي الله يحفظك. ما أجمل السنة الأولى من الزواج.

تنشغل نادية بمقاس القميص والسروان بينما تنصرف أم منى إلى هلوستها تتدكر عندما عادت مع صاحبها في منتصف الليل إلى الدار الكبيرة, حيث كانت غرفة نومنا تقع بالمنزه الذي يطل على الحديقة, نزعت منصورية مارشال وقفطان لابيسين لتظل بقميص جوهرة وبسروال كولف. رفعت القميص و كشفت عن ساقيها. سروال الكولف ينحصر عند الركبتين و يبدو ساقها الوردي اللامع فاتنا وشهيا. تعرف ذلك من نظرات صاحبي. يبتسم, لا ينبس بكلمة, لكن صمته فيه ألف كلمة وكلمة. تزداد انشراحا لالتفاتات صاحبها وتغتر بجمالها كلما كشفت عن ساقها تلمع عينا ه. تتمايل على الفراش و تحمد الله على أنه لا ضرة لها, وأن صاحبها يلبس الكوستيم وشعره بالفريزي, وأمواله عريضة ورثها عن شرفاء القرية. عندما كانت تتمايل على الفراش سألته عن سيدة حضرت الحفل, تتحدث بالفرنسية والأمازيغية, ولباسها فرنسي تضع فوقه حنديرة, حظيت باهتمام أهل البيت. أجابها بسرعة كأنه يعرفها: “إنها مدام لوبوا, زوجة الفرنسي جاك, أول من ملك منشار الخشب في القرية. أغرم ببنت الكابران الذي كان يدير معه المنشار. توفي الكابران وتسلمت البنت مهام والدها فظهرت مهاراتها مبكرة وأعجب بجمالها صاحب المعمل فتزوجها.”

تذكر أم منى أنها تعجبت من هذا الزواج لكن صاحبها قال لها ليست المرأة الأمازيغية الوحيدة التي تزوجت فرنسيا. مدام روز تزوجت صاحب ضيعة بالقرب من مريرت. كان زوجها يدير مهام الضيعة و توفي وهي دون العشرين سنة. ترك لها ثلاث أولاد فبادرت بإدارة مهام زوجها. كانت تمد الفرنسي بقصعات الكسكس الطري المفتول بيديها وتصب عليه الحليب فتزوجها حبا و إعجابا.

مازالت نادية تقلب قطعة الثوب التي انصرفت أم منى عن تفصيلها واسترسلت في هلوستها عن جمالها الفتان و أول سنة من زواجها بالشريف. تقترب الخادمة من أم منى, تحمل رسالة سميكة. تقول لزوجة أخيها:

هذه قائمة الهاتف

تفتح الظرف و تعد الأوراق الغليظة. تقرأ الأرقام:

كترفان ديزناف اتزر.

تضرب نادية على فخدها متعجبة. أم منى تقول لها:

لا تتعجبي يا زوجة أخي, حقا تعلمت قراءة وكتابة الأرقام بالفرنسية. صديقتي جاكلين علمتني الكتابة وصاحبي علمني الكلام بالفرنسية لأطلبه عبر الهاتف. عندما أحسن عد الأرقام ينتفض مهللا: “برافو شيري”. أنا تعجبني كلمة شيري , أشعر بالحب يسري في جسدي وأعرف أنه يعزني.

نادية تقف من مكانها غاضبة متعللة بان السروال لم يفصل بعد لحديثها الطويل. تطلب منها أن تصاحبها إلى دكان القباج لتختار معها قفطانا جديدا موضة. تقول لها:

نخرج لشراء قفطان ولمشاهدة ملصقات على حائط سينما مونديال. اسمهان صدرها عار وشعرها مقصوص.

أم منى تقول لها مفتخرة:

لقد شاهت اسمهان البارحة في فيلم ” غرام وانتقام “. دخلت مع سيدي محمد إلى السينما.

يدخل صاحبها و يطلب منها أن تعد الشاي. تسرع إلى المطبخ, تأمر الخادمة بذلك و تعود بسرعة البرق. تسمع صوت نادية خافتا:

ما أجمل لون بشرة سيدي محمد. إنها تشبه اللوز مقلي في الزبد الطري. الله يحفظ لنا الشريف ولد النبي.

أم منى تحترق, تخرق جيدها سكاكين حادة و تشتعل نارا بالغيرة. تعلم في هذه اللحظة أنها مغرورة, تعلم أن الجمال وحده لا يكفي, تعلم أن الرجل يحتاج إلى الغزل وأن تقول له المرأة أنت سيدنا السلطان. تستغرب لذكاء زوجة أخيها مع العلم أنه لا ذوق ولا جمال لها. تتعجب كيف تملك هذه الكلمة الأنيقة “اللوز مقلي “, كيف ربطت سمرته باللوز. تزداد غيرة و تشتعل نارا. تتعجب ؟ صاحبها تنفلت عيناه و تود الانقضاض على نادية. يرغب في الانحناء ليقبل يدها ويقول لها:” أنت زهر اللوز”. يغض بصره, يربط شهوته الحمقاء و يصرف عنه السوء والفحشاء. ينسل من مكانه و يجري إلى الباب, وهو يقول لصاحبته:

اسمحي لي بالخروج للبحث عن أخيك ليتناول وجبة الغداء معنا. سأحضر لكما قطعتين قميص جوهرة من دكان القباج.

ينصرف بسرعة, تقطع نادية يدها بالمقص و يسيل الدم على السروال كولف. يفسد مزاج أم منى و تشتعل نارا. تنتبه في لحظة إلى غباوتها العرجاء, تعرف أنها ضالة بليدة. لم تستطع أن تغلق الأبواب يوما و تفرح صاحبها بكلمة منعشة, يشعر من خلالها أنه أجمل رجل في العالم. تتألم وجعا. تنصرف إلى وسط الغرفة الكبيرة, تستلقي على السجاد التركي و تمارس بعض التمارين. تجلس على الأرض, تفتح ساقيها أكثر قدر ممكن, تشد بأصابع يدها أصابع قدميها, يمس صدرها الأرض. ينقسم الجسد شقين و ينطوي الأعلى على الأسفل. عندما تقبل الأرض, تعرف منى أن أمها أنهت التمارين الرياضية.

تقترب نادية من أم منى, تهمس في أذنها, يبتسمان. تسمع منى كلمات, يستعص عليها الفهم , تفهم الليل و تعرف أن الليل مخيف فيه ظلمة حالكة. تلتفت الأم محرجة إلى موقع منى بجوارها و تقول لنادية:

الطيور تيلقطوا الزوان.

عندما تسمع منى هذه الكلمة, تعرف أنه يجب أن تفر للعب في الممر الأسطواني وتترك أمها وزوجة خالها يتكلمان عن الليل. تعود منى بجوار أمها, تريد أن تعرف أسرار الليل. تقول لها:

اذهبي عند جدتك وقولي لها اقلي الفول واقبطي المرسول.

تحفظ منى الجملة كاملة حتى لا تضيع من لسانها. تعبر الطريق وهي تردد كلمات, لا تفقه معناها وعندما تصل تضحك جدتها و تدخلها إلى الغرفة الكبيرة, لتلعب في خزانة كتب جدها المغبرة. تبحث منى داخل الكتب عن صور لتعطيها لابن خالها رضا يضعها في السينما. تغرق في البحث, لا تجد أي صورة, لا تجد إلا حروفا علمتها إياها أمها. تمسك بيدها مجلة, رسالة المغرب, السنة الأولى. تفتحها: الكاهنة داهية. قصة تصور حياة سيدة أمازيغية عاشت في المغرب قبل دخول الإسلام إليه. تمسك بمخطوط و تفتحه.

” جنبوها حبائل الإطراء امنعوها من كيد أهل الرياء

.

علموها أن المحاسن حسن ال عقل لا حسن منظر ورواء “

تفتح كتابا آخر.

” وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال”

يحلو لها أن تقلب صفحات الكتب لتنزع الصور. تعجبها الكتب المغلفة بالجلد والمكتوبة بالذهب, بعضها محفوظة في محافظ لها مجدول تعلق منه. تمسك بكتاب تتصفح أوراقه الصفراء “بهجة المحاسن وأنس المجالس وتحدي الذهن والهاجس” , تأليف ابن عمر بن يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر التمري القرطبي 368-463 . مازالت لاهية بالكتب. تفتح كتابا آخر ” من أراد النجابة فعليه بفتيات فارس, ومن أراد الخدمة عليه بفتيات الروم, ومن أراد الحب عليه بفتيات المغرب ….”. منى ما تزال عابثة بكتب جدها المغبرة, تبحث عن الصور. تفتح كتابا آخر مغبرا أكثر من الكتب السابقة. الخصائص الكبرى للسيوطي, الجزء الأول. تقلب صفحات الكتاب بسرعة , تقف عند صفحة 532 . …والله رأيت النساء يشددن على الجبل وقد بدت سيقانهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن؟” منى تفتح القرآن الكريم “ …كشفت عن ساقيها …”.

تلتفت منى لجدتها وهي تطوي الغسيل بقرب عتبة الغرفة الكبيرة. تصب ماء الورد على الغسيل, تفك ثناياه وتطويه. تنهض, تحنو على حفيدتها و تقبلها قبلة كبيرة. تمدها بقطعة غريبة مسوسة [4], تلتهمها الطفلة بنهم شديد, تقبل جدتها قبلة حارة و تتعلق بصدرها لتفتح عقد قفطانها. جدتها تتركها تلهو,لا تعنفها عندما تفتح الكتب. الجدة لا يهمها أن تضيع ورقة من كتاب, وعندما تشاهدها تمزق ورقة لا تبالي بذلك فالكتب لا تهمها. كتاب وحيد هو النظيف. تقدسه و تمسكه وهي مطهرة. تقبل غلافه و تفتحه.

تقلب منى النظر في أركان الغرفة. ترغب أن تمد يدها الصغيرة الفتية لتلمس فناجين وصحون القهوة. تقترب منها الجدة بسرعة البرق, تمسك بأحد الفناجين, تقلبها على ظهرها و تقول لها:

-اقرئي الحروف المخطوطة م ن ش س ت ر.

تخاف أن تسقط فناجين القهوة على الأرض. تقول لها:

سأعطيك الفناجين يوم صبوحك.

تخاف منى عندما تسمع صبوحك و تزهق هاربة صوب الباب . تصل سكنها بسرعة البرق و تسأل أمها:

الصبوحي؟

تحضنها أمها إلى صدرها وتنام نوما خفيفا , يشتد الحوار بين نادية ووالدة منى, الليل, العري, النار. منى نائمة . تغني نادية:

النار الحمرة أسيدي في الجوف كاديا.

يكثر حديث نادية عن الليل. تلتفت أم منى إلى أنوثة طفلتها المبكرة وإلى شغفها بسماع الحوار. تمسكها إلى صدرها, عندما تفتح العقد تعلم أنها استيقظت تسمع الحوار كاملا. تدفعها على الأرض قائلة:

اخرجي والعبي مع بنت خالك بالحبل المطاط.

تقول لزوجة أخيها نادية:

الطيور يلتقطن الزوان[5].

عندما تسمع منى هذه الكلمة تعلم أن الحوار اشتدت حرارته وبدأ يخرق المحرمات ويدخل في قلة الحياء. الكلمات توقظ أنوثتها مبكرا. تعلم منذ هذا السن أن العري حقيقة, القميص والقفطان والمنصورية كذب, الليل لا لباس فيه, الليل عري والنهار لباس. نادية حريصة على تفصيل قميصها. أم منى تفكر و تقول لها:

مائة تخميمة وتخميمة ولا ضربة بالمقص.

تستعد نادية للخروج رفقة أم منى, لشراء أثواب فاخرة من عند دكان القباج في حي الروامزين, الذي يستورد سلعا فرنسية متميزة. تقول لها:

– أيتها البلهاء ارفعي قب الجلابة قليلا, اتركي الحاجبين يظهران و انزلي اللثام أسفل لتظهر وجنتاك . أنا آسفة لهذا الجمال الفتان المغطى باللثام .

ترد أم منى محتشمة:

– اخجلي من كلامك يا زوجة أخي. لا أريد أن أنزل اللثام قليلا. ألا تخافي أن نصادف والدي عائدا من الزاوية فيشتمنا لهذا الفجور.

تستهزئ منها نادية و تقول لها :

حمي شيخ هرم يجب أن يلتفت إلى سبحته وسجادته, يكفينا حكم أزواجنا. ألا ترين كيف يلبس زوجي وزوجك الكوستيم. يجب أن ننزل اللثام قليلا إلى أسفل حتى لا نجرح عيوننا . غيري هذا اللثام, إن السوسدي الطويل والمطرز بالرباطي وبالمرمة لم يعد موضة ,غيريه.

تلفت نظرها إلى أن لثامها من المسلين الناعم الشفاف, قصير يظهر الجيد, مطرز بطرز ماكنة سانجيسر [6] و رسوماته ورود مخرمة, عند الحركة يظهر الجيد كاملا لأنه قصير. تقول نادية ساخرة:

– لثامك كبير, نصف متر من المسلين يكفيك, وعند نهاية أطرافه امسكيه بحبل مطاط على قفاك, ستلاحظين أن القطعة على وجهك ناعمة. اسمعي لي جيدا, نخرج إلى حمرية وندخل مونوبري لنشاهد الفرنسيات في أناقتهن البالغة. أريد أن أشتري صباط طالو[7].

أم منى لا تسمع كلامها تلكزها بمرفقها قائلة:

– ألم تنتبهي يا زوجة أخي في حفل خطوبة أخي أحمد إلى اللباس الذي كانت ترتديه أخت العروس, قفطان لونه يحاكي شعر الجمال من نوع طافطا [8] حرير, رسوماته ورود مرصعة بخيوط الذهب وفوقها موزونات [9] كبار في حجم اللويز, وفوق القفطان ترتدي منصورية من نوع الفشوش [10] من المسلين الملون بألوان تحاكي الورود والزهور

تقاطع كلامها نادية قائلة:

– حذار أن تلبسي مرة أخرى قفطان لابيسين ومنصورية مارشال, لقد أصبحت معروفة بهما في كل الأفراح. غيري لباسك بلباس موضة جديد فزوجك أنعم الله عليه بالرزق الوفير.

أم منى تستهجن كلامها. تصمت تفكر ثم تقول لها:

– زوجة أخي ألم تنتبهي إلى شعر أخت العروس مقصوص كوب كارصا [11] . أنا سمح لي سيدي محمد بقص شعري وذلك عندما شاهد شعر صديقتي الفرنسية جاكلين مقصوصا. قال لي قصيه قصيرا أنا أحب أن أراك بلا ضفيرة.

نادية تقول:

– لنخرج لشراء الصباط طالو قبل أن تقفل الدكاكين في حمرية.

تصمت أم منى لحظة لا تسمع كلامها , تعود نادية إلى الاسترسال في الكلام بصوت خافت متناغم:

– آه لو علم خالي سيد الهادي بأمر خروجي إلى حمرية لشتمني. لقد كان يحكي لنا أشياء غريبة عن فرنسا عندما كان مختفيا عندنا في بيتنا بالمولى إدريس زرهون. لو علم بأمر خروجي, لقلت له: أحب الموضة لهذا أخرج إلى حمرية, وأنبهه إلى أنني كذلك أخرج إلى ساحة الهديم, أصرخ أزغرد وأردد الأناشيد الوطنية التي كنا نرددها معه

“يا ملك المغرب يا بن عدنان الأبي

نحن جند للفدا نحمي هذا الملك”

نادية تتكلم مشجعة أم منى للصعود إلى حي حمرية, لكنها تظل غافلة عنها, لا تلتفت إليها, لا تفكر في السباط طالو , تعرف أنه مرتبط بطلاق أمها. تذكر حكاية حقيقية روتها لها والدتها, تقول لها:

يا زوجة أخي, قالت لي أمي: “مرة شاعت موضة صباط طالو بين نسوة أهل فاس, فطلبت من دادا الياسمين أن تخرج إلى دار دبيبغ [12] وتشتري لها حذاء بكعب عال.

كانت قد شاهدت من قبل نساء مانشستر متبخترات في خيلاء, تسعفهن الطرقات المستوية الواسعة على المشي. لما شاهده والدي في قدمها طلقها بالثلاث وفر هاربا إلى أصدقائه يخبرهم بمغبة الأمر. كان أحد أصدقائه عالما من القرويين, قال له: “الحاج هذا حرام, تلعب الكارطة [13] مع أصحابك وتقسم بالحرام وتطلق زوجتك عندما تعرف أنها اشترت صباط طالو واستبدلته بالشربيل ؟. هذا كثير على نساء المغرب, نسيت أيام كنا طالبين بالقرويين ننسخ كتاب قاسم أمين مستحسنين أفكاره. نسيت أنك كنت تقول لي في مانشستر نسوتهن أنيقات, المرأة في بلد الوندريز فاتنة تتهافت على الموضة وتغيير لباسها. أنسيت ترديدك للحديث الشريف “المرأة أكثر شهوة من الرجل بتسع وتسعين مرة, لكن الله أوقع في قلبها الحياء”. الحمد لله أن أختي تزوجت بعد موت زوجها في مانشستر زوجا مصريا ولم تعد إلى بلد المغرب. عندما أؤدي مناسك الحج أعرج على القاهرة وأجدها سعيدة. الرجل المصري يلاطف زوجته. ألا تعرف أنك ظالم ومعتد وعنيف. كلمتك الأولى علي بالحرام. ينطقها لسانك بسهولة ويسر. والله إن هذا الظلم كثير عليها. تخيفها بالطلاق لأنك تعرف أنه لا عمل لها تكسب منه قوتها. ألا تعلم أن منهن من يستطعن أن يعلن أسرهن بعد موت أزواجهن. ألا تعرف أن صانعة الحلويات للا بنيسة اشترت سكنا بباب الخوخة.”

نادية تستهجن كلامها تعده خرافات تقول لها :

كفى من الخرافات, أسرعي لنفصل سروال كولف و لنخرج إلى حمرية.

أم منى ترفض الخروج إلى حي حمرية لشراء الحذاء ذي الكعب العالي. نادية تراودها و ترجوها للخروج.

أم منى لا تقرأ الكتب الضالة, ترغب في قراءة كتاب مقدس واحد. تديم القراءة علانية وسرا. لكن إذا حصل وقرأت كتابا ترغب في العثور على الصور لتعطيها لابن أختها رضا ليضعها في السينما. لا تغريها الكتب ما هي بقارئة, الحروف تتهجاها على مهل. القراءة لا ترغب فيها. نادية لا تعرف الابتكار. أم منى تجهد نفسها الساعات الطوال لتفصل سروال كولف و تزاوج الألوان في ذكاء حاد, لون الفوقية سماوي, والقفطان زواني والسروال سبطي. منى الطفلة بجوار والدتها وزوجة خالها لا حق لها أن تنبس بكلمة, ولا أن تبدي رأيها في التفصيلة وزواج الأوان. تصمت و تخرج لمشاهدة سروال قندريسة جلط بالدم.

يسمع صوت للا زهور في داخل الغرفة ما زالت تقفز أمين . تختلط الأصوات .


[1] – المرقة : الماء والزيت والتوابن الدي يطيب فيه اللحم

[2] – قندريسة :

[3] – دنيا جات :

[4] – غرييبة مسوسة : باللوز وأصفر بيض الدجاج

[5] – الزوان : نوع من الحبوب يأكله الطيور .

[6] – سانجير : آلة خياطة وطرز ظهرت أيام الاستعمار الفرنسي .

[7] – صبط طالو: حذا النساء ذو الكعب العالي

[8] – طافطا : نوع من الثوب النسوي قفطان ز

[9] – موزونات : موزون

[10] – الفشوش :

[11] – نوع من قص شعر النساء

[12] – دار البيبغ : حي يسكنه الفرنسيون بفاس أيام الاستعمار

[13] – الكارطة : لعبة الورق

الفصل الرابع

الطلاق…. شبيه بالحمام

للا زهور تعبر الدهليز, لتودع ابنتها ليلة زفافها غاضبة والألم يعصر قلبها. تقول لزوجها:

أقسم بالله العلي العظيم, أن ابنتك إن شاء الله ستطلق من هذا الشيخ المتزوج وستزف إلى شاب صغير عزب, شريف ولد النبي, يلبس الكوستيم[1] , وشعره ب الفريزي [2] , وله أموال عريضة ينعم علينا بسخاء وكرم شديدين.

أم منى تشتكي لوالدتها كعادتها عن بعض مشاكلها الزوجية. زهور لا تفتأ تعنفها بقسوة, تأديبا لها على حماقاتها, مستنكرة مواجعها. تقول لها:

لقد تزوجت مرة ثانية شابا عزبا, يلبس الكوستيم , وشعره ب الفريزي و له أموال عريضة. كل ما تطلبين من حلي وملابس يشتريهما دون تردد. لقد اشترى إليك في صباحك الأول * مضمة* [3] مرصعة بالياقوت والألماس , لم تحلم بامتلاكها أي عروس في ذاك الزمان . احمدي الله واشكريه. إذا سافر لقضاء شغله فهو رجل وإذا عاد رجل. الرجل معدن الذهب لا شيء فيه يتغير. هل تريدين أن تشفي فينا الأعداء ؟ تطلبين الطلاق مرة أخرى؟. سيشمت فينا طليقك, إنه مازال ينتظر عودتك إليه. لقد اعتدت الشكوى, فعند زواجك الأول من الحاج كنت تشتكي وتحتجين بأنه كبير السن, و أن ضرتك في مثل سن جدتك…

تشعر أم منى بألم من جراء تعنيف والدتها و تدخل إلى المطبخ. تصمت الأم لحظة ثم تعيد شريط زواج ابنتها بالحاج.

حقيقة كانت تؤلمني وحدتك وأنت تعبرين جوانب الرياض الموحش خائفة, عندما كنت تزوريننا رفقة الحاج. تختفين في إحدى الغرف ولا تقبلين صحبته. تقيمين في بيت والدك شهرا, شهرين, ثلاثة. يظل يتردد على دارنا, يحمل إليك الهدايا النادرة, منصورية من نوع مرشال وقفطان لابيسين . كنت أستعطفه عندما تتكرر زياراتك إلى دار والدك و أقول له: “ الوحم صعب. طول النهار وهي تتقيأ, لا يستقر الطعام ببطنها, الدوخة تقتلها.” ألاحقه إلى الممر الأسطواني, أصل باب الدار والدموع محتبسة في عيني, ينصرف غاضبا.

لما ولدت للا نائلة المباركة المسعودة , أقام لها العقيقة في مستوى وجهاء المدينة وأغدق عليك هدايا ثمينة , منها أقراط من الذهب المرصع بالماس الحر, و’ طانكي ‘[4] من الذهب المرصع بالياقوت, و’ خيط الريح ‘[5] مخرم بنقوش .

الحق يقال أنه رجل شهم لم يأخذ من لباسك الفاخر وذهبك الثمين أي شيء بعد طلاقك. كان كريما ودودا هادئا طيبا معك أنت وحدك. لكنه مع ذلك طالبنا بالخلع حين أراد والدك تطليقك منه. طلب منه مائة ألف ريال, وكانت غايته تعجيز قدراته المالية, خصوصا بعدما علم أن تجارته آلت إلى الإفلاس, مما دفعه إلى بيع قطعة من الأرض في مزرعته بمائة ألف ريال بسيدي سعيد. كانت المزرعة محط نزهاته في فصل الربيع وقريبة من قيسارية بريمة مكان تجارته . عندما قدم له المائة ألف ريال قال له:” زوجتي لن أطلقها.” عاد الأب المسكين باكيا والدموع حجر لا يتحرك من عينيه. استنجد بأبناء عمه, حماد والمفضل و الخليفة امحمد, وبعد أخذ وعطاء في الكلام قال له ولد عمه الخليفة:

إذا كنت عازما على طلاق ابنتك فيجب أن نستعمل معه الحيلة. ابحث على شي مانرة [6] ولا شي خنطقرة [7] .الشهر القادم رمضان المبارك, في هذا الشهر لا يستعمل ‘ السبسي ‘[8] , ولا ‘ التنفيحة ‘[9] فيفسد مزاجه, في ذلك الوقت يمكن التحايل عليه ومراوغته لتطليق ابنتك.

وهكذا حصل طلاقك في شهر رمضان المبارك, وفي العيد الصغير قدم شاب عزب يطلب خطبتك. كان يلبس الكوستيم , وشعره بالفريزي , ولد النبي , له أموال عريضة ورثها عن أجداده الشرفاء. وعقد قران زواجك في عيد الأضحى.

أم منى بداخل المطبخ تتذكر. كان الحاج يلاطفها, يحنو عليها و يرصع أذنيها بأقراط من الذهب الناصع المنمق بالألماس الحر. ينظر إليها الساعات الطوال هياما وعشقا, يقول لها:

– فاتنتي, أنا خادم تحت قدميك. ابعدي عنك خرافة الضرة. أنت لي وحدي. ضرتك خار عظمها ويبس جلدها, وقل نظرها. كل همها منصب على زواج بناتها التسع قبل أن يعنسن. أصبحت مشغولة بأولادها و لا تفكر إلا في الطبخ لأحفادها .عروس ابنها البكر تزيدها نكدا وغما. لا يهدأ روعها ولا يستنير وجهها إلا عندما تتردد الخطابات على دارها , أو عندما يملأ خزين عولتها [10] , فتسهر على تنظيمه وإغلاق خوابيه [11] بخرق مبللة بعجين تدقة . قولي لي فاتنتي, ماذا تطلبين, أنا خادم بين يديك. لا أريدك أن تبرحي سكني, أنا محتاج إليك اليوم أكثر. ماذا تطلبين ؟

بصوت خافت ولسان متلعثم تقول:

أريد أن أخرج إلى حمرية [12] , لأشاهد أناقة الفرنسيات , سافرات شعرهن مقصوص و يمسكن بيد أصحابهن.

ركبت سيارته الفخمة المجنحة. كانت السيارة الوحيدة التي تعبر ذاك الزمان ساحة الهديم لتخرق حي الروامزين في اتجاه حي حمرية. يسوق الشيخ سيارته وهو في كامل أناقته بجلبابه البزيوي [13] وبلغته المدفونة. كان يبدو عليه الشباب المتوهج من خلال قوة حركاته وكبر جسمه. يحدثها مفاخرا بما جمع من مال وفير, يقول:

أنا أول رجل تعلم أن يسوق السيارة في مدينتي. اشتريتها من أجلك فاتنتي. أنا يهاب أمري تجار قيسارية بريمة. أنا ذهبت إلى الحج تسع مرات و حرمت من بيت المقدس. سأحج معك السنة القادمة إن شاء الله, وأعرج بك على القاهرة لمشاهدة أم كلثوم تغني بكازينو الزقازيق.

يغني لها:

وحقك أنت المنى والطرب.

تنشرح, تبتسم. يبدو على وجهها قنوط غريب يقول لها:

أنا قلق على أخي الصغير جليل, إنه مشاغب دخل في خلايا وطنية سرية, لقد قبض عليه الفرنسيون أمس.

تحققت دعوات السيدة زهور. طلقت ابنتها, وزفت إلى شاب عزب, ولد النبي, يلبس الكوستيم, شعره بالفريزي, و له أموال عريضة ورثها عن أجداده الشرفاء. ينعم على أسرة زوجته بسخاء وكرم شديدين. الحاج عبد الكريم يشعر بغربة ابنته. يقترب منها وهي تحفظ صغارها سور القرآن الكريم, وتخط حروفا … التاء ... الحاء … الراء … الياء. يشعر بقسوة الزمن عليها و يبادر بعودته من الزاوية لمجالستها. يقول لها:

الصبر, الصبر يا ابنتي يكسر الحجر. رزق صاحبك في”اتزر” , هذا قدرك.

تغني بصوت خافت قربه:

مكتوبي انصرفو باللازم علي .

رددي معي يا بنتي.” حسبي الله ونعم الوكيل “

يمسك بيدها مواسيا, يقول لها:

رددي معي هذه الأدعية

” الله يا مجيب الدعوات, ويا مفرج الكر بات من فوق سبع سماوات, ويا فاتح خزائن الكرامات, ويا قاضي حوائج السائلين, ويا سامع الأصوات, ويا غافر الزلات, ويا مقيل العثرات, ويا منزل البركات, ويا من أحاط بكل شيء, أسألك أن تصلي على سيدنا محمد, وأن تقضي حاجتي وأن تنجيني من الغم والغباء والغفلة. سبحان المفرج عن كل محزون, سبحان المنفس عن كل مديون, سبحان الميسر لكل معصور, سبحان العالم بكل مكنون, سبحان من جعل خزائنه بين الكاف والنون, سبحان الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. “

أم منى تنهض متثاقلة بالقرب من والدها, تستأذنه الدخول إلى المطبخ لتعد وجبة العشاء. تقلب قميص جوهرة المذيل على قفطان الملف و تمسك بمذيلته في حزام خصرها. يلتفت إليها والدها مؤنبا:

هذا حرام يا ابنتي لقد ظهر سروالك الكولف. إن الإمام الغزالي يقول: للمرأة عشر عورات, إذا تزوجت ستر الله عورة واحدة, وإذا ماتت ستر القبر باقي العورات.

الحاج عبد الكريم قلق على ابنته. للا زهور آمنة مطمئنة عليها , تتردد على سكنها بحي الدريبة. تنتعش وتسر لصحبة ابنتها لشاب عزب يلبس الكوستيم وشعره بالفريزي. يقضي معها ليالي دافئة مليئة بالحب والاطمئنان. تردد في نفسها:

ا بنتي أحسن مني بكثير. أنا لما فتحت عيني وجدت شيخا هرما قفة من العظام , وأبناء الخادم يكبرونني بسنين. كسدت تجارته, عندما بدأت أزوج أولادي قل ماله وخار عظمه. عجز وما زال حماد في الباك الأول وحبيب في البروفي. أبكر في الصباح لأخيط القفطان والمنصورية والقميص والسروال بآلة الخياطة سانجير وأشتري لهما الكتب .

للا زهور استجاب الله دعاءها. نال المغرب استقلاله, زغردت النساء من أعلى السطوح, و وراء الأبواب. توفيت للا البتول أخت زوجها بالضغينة وغصة الألم تحرقها, لأن زوج ابنتها الوزير فقد سلطته الإدارية بذهاب السلطان محمد, و عودة محمد الخامس من منفاه إلى المغرب. كانت السيدة زهور عندما تغيظها أخت زوجها, تصعد إلى السطح وتشهد عليها الجيران, تنزع المنديل من فوق رأسها, تعري شعرها وترفع عينيها إلى السماء متضرعة ومتوسلة إلى الله. تصرخ بأعلى صوتها:

سينال المغرب استقلاله إن شاء الله وسنشمت بوزير السلطان محمد.

تحققت دعوات للا زهور .شهد ت لها الجارات بالبركة وشمتت ببنت للا البتول التي زوجت بوزير السلطان محمد.

توفي الحاج عبد الكريم, وترك زوجته زهور في بداية شيخوختها, تحلم بالمراكز السلطوية و مواقع القرار. الخليفة ابن عم زوجها والوزير زوج ابنة للا البتول كانا يمارسان السلطة. زهور لا تمارس السلطة, تحلم , تكثر دعواتها قبل صلاة المغرب. تتحقق دعواتها و تغير اسمها بعد الاستقلال, تخرج ولدها حبيب ضمن أول الأفواج من مدرسة تكوين الأطر, أصبحت أم القائد. ابتهجت بهذا الاسم, رغم أنها لا تفرق بين سلطة الاستعمار وسلطة ما بعد الاستعمار. الشيء المهم عندها أن تمارس السلطة. أن تعنف بعض الرعية الوفية.

للا زهور تتذكر, كلما عصر الألم قلبها, تتذكر عندما كانت بمانشستر تماثل قطعة ألماس تتحرك فتنة وجمالا, نار تتحرك توقظ شهوة كل الرجال. مغرمة بالوقفات الطويلة وهي تطل على المارة من شرفة غرفتها. بلدها لا شرف فيه, توجد فقط ثقب عالية محاذية لسقف البيت تسمى بشماشية, يدخل منها بصيص من النور ولا تطل منها النساء. زهور يعجبها أن تقف الساعات الطوال أمام المرآة لتتزين ثم تخرج إلى الشرفة بسكنها بمانشستر مبكرة تذكر:

اسعد صباحك يا ضوء الله …

يواجهها الضباب. لا شمس في مانشستر مثل شمس فاس؟ لكنها لا تشعر بالغربة, مبتهجة و سعيدة لأنها تحلم بمشاهدة النور يشرق في بيت الله.

تتردد السيدة زهور على سكن ابنتها في المساء. تعبر الطريق راجلة من حي قاع وردة إلى حي الدريبة و تعرج على حديقة الحبول. يحلو لها أن تطيل النظر على الأشجار الباسقة المورقة الشبيهة بحدائق مانشستر. تسمع زقزقة العصافير, تنعشها الشمس و تحمد الله وتشكره لأنها لم تعد تسكن بدرب الخواجة فهي الآن على مقربة من أرياض المدينة. تقترب من باب كناوة, تواصل المسيرة, تقطع شارع الروامزين, تمرق السيارات الفاخرة بجانبها, توهم السائق الفرنسي أنها تعبر الطريق, لكنها تمشي على مهل و تتعثر. تسمع صوت صاحب السيارة يقول لها مبتسما:

– في أطانسيو مدام.

تبتسم تسوي اللثام وهي تمعن النظر في السائق الفرنسي. ترتبك , ينزل اللثام قليلا تعيده بسرعة ليجرح عينيها. السائق يعجبه غنجها, تبتسم, السيارات تواصل سرعتها تمرق تخطف الأبصار هي غير آبهة للسرعة. تقف طويلا لمشاهدة واجهات الدكاكين الزجاجية في حي الروامزين والتي تستورد سلعا فرنسية تغري للا زهور بشرائها . السلع المعروضة هي نقيض ما تعرفه في دكاكين حي قبة السوق. تدقق النظر على واجهات الدكاكين, الملابس الداخلية مغرية , * كومبينيزو *[14] من الموسلين بالدانتيل الأسود, سوتيان [15] … كل هذه السلع المعروضة تحيلها على الليل والحب والاطمئنان. تواصل النظر مليا على واجهات بقية الدكاكين. تغمرها السعادة . مشاهدة الملابس الداخلية تفرحها. تعبر حي الروامزين لتصل إلى الدرج المفضي لحي الدريبة حيث سكن ابنتها وصغارها. تتلمس بشرة يدها الجافة , ثم تعجل السير, تريد أن تطمئن على أحفادها. تلمس يديها مرة أخرى و تعجب لجفافهما, تواصل هلوستها:

سأعود إلى البيت وأذيب الشحم مع الشمع وأجعلهما مرطبا ليدي. بالأمس استعملت خليط الحلبة والبيض والعسل وزيت أركان مرطبا لوجهي, وغسلته بعصير العنب البارد ومسحته بماء الورد.

تفاجئها عند نهاية الدرج وقرب درب الشرفاء للا العزيزة الصحراوية, تقول لها:

هكذا أحسن, أخرجي مرة مرة أللا زهور لقضاء حوائجك. الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ‘ أذن لكن أن تخرجن لحاجاتكن ‘. ورد هذا في صحيح مسلم. أقرأتنا إياه العالمة الفقيهة في مدغرة قبل رحيلنا إلى مكناس. اخرجي مرة مرة لتبعدي عنك القلق …

للا زهور كثيرة القلق على أبنائها وبناته, تخاف أن يصيبهم مكروه. الله يحفظ, تخرج اللطيف ألف مرة, عندما تصاب بوساوس تقول أعود بالله من الشيطان الرجيم…..

للا زهور شديدة القلق و دائمة الصراخ في وجه صاحبها. هي قوية و صلبة في نهاية شبابها, وهو ضعيف و واهن في نهاية شيخوخته. يقول لها وقد نفد صبره:

أقسم بالحرام ثلاث أنت ط…

تقطع كلامه ساخرة:

الحمار … ليس الحرام. لقد جاوزت ثلاث طلقات هل نسيت ….

تذكره بليالي شبابه الزاهية . كلمة طلاق لم تعد تؤدي وظيفتها شاخت بشيخوخته . زهور لا يخيفها الطلاق تحكي لحفيدتها منى, تقول لها:

النساء هن بدورهن يطلقن الرجال. سمعت مرة جدتي تحكي, تقول : كانت جدة جدة جدتي بغرناطة تطلق زوجها. يعلم بطلاقه عندما تحول باب دارها, فإن كانت يمينا جعلتها شمالا, فإذا شاهد صاحبها ذلك عرف أن صاحبته طلقته.

منى تتساءل ما علاقة الباب بالطلاق؟ تتذكر قراءتها لمسرحية ” لعبة دمية ”. المرأة النرويجية تطلق زوجها. حصل ذلك عندما صفقت نورا بطلة المسرحية الباب وراءها وانصرفت. أم منى ترغب مرة ثانية في الطلاق, تصفق الباب وراءها, تخرج إلى الحمام وتطلق زوجها ثلاث ساعات, تدخل ثلاث غرف. الحاج عبد الكريم عندما تتأخر ابنته في الحمام يعرف أن القلق استبد بجسدها وطلقت زوجها. كان شديد العطف عليها و يشعر بقلقها إزاء غربتها القاسية. يخاف من الأبواب لأنه كان فقيها و على علم بحفيدة سيدتنا حواء التي غلقت الأبواب ولم تطلق صاحبها. أم منى لا علم لها بخبر من غلقت الأبواب و خرجت إلى الحمام .

رحلت للا زهور من فاس إلى مانشستر إلى الجديدة إلى مكناس إلى الدار البيضاء, و هي الآن بشقتها اللامعة النظيفة بحي مولاي يوسف بالدار البيضاء. الغرف أنيقة ومنظمة. في غرفة الضيوف, وعلى جانب المدفأة الرخامية الغير المشغلة, يوجد دليل الخيرات في محافظ الجلد الممزقة , و بالقرب منها توجد صحون وفناجين صغيرة كتب على ظهرها بخط مغربي مانشستر. شربت فيهم القهوة مرة واحدة عندما كانت عروسا . يضحك أحفادها عندما تنطق مانشستر. يلمسون الفناجين. تخاف أن تقع على الأرض وتتكسر, تقول لهم:

القهوة تشرب في الفناجين على الأرائك الناعمة بمانشستر.

يضحكون ويتعجبون عندما تنطق مانشستر ؟

السيدة زهور في نهاية شيخوختها تحدثها جارتها المراكشية, تقول لها:

لم يعد أولادك يزورونك كما عهدتهم من قبل. للا زهور يجب أن تطعميهم بيض الحمام. تضعيه ليلا في صدرك وفي الصباح يطبخ ويقدم لهم أكلة شهية. أنت بارعة في الشلاضة [16] بالجزر والخص والدرة والطماطم, افرمي عليهم بيض الحمام وسترين النتيجة قريبا. ستنتقل الحرارة التي شدت على البيض في صدرك إلى صدرهم ويشتعلون نحوك حبا.

السيدة زهور, في شقتها بشارع مولاي يوسف, تحدثها جارتها المراكشية عند الظهيرة تذكرها بالسهرة التي سيغني فيها اليوم محمد أغنية ” ودارت الأيام”. ينتظران السهرة .الشقيقتان منى و فدوى بشاطئ الصخرات يشتكيان من همومهما الزوجية. تقول فدوى:

زوج صديقتي الدكتورة فتيحة اغتصب خادمته, عمرها تسع سنوات, غطت عليه لأنها لا تريد الفضيحة.

تقول لها منى:

أنا الأخرى اغتصبت. انتزعت قبل أن أعرف موقعي في هذا العالم. الزواج المبكر اغتصاب. من المسئول؟. والدي كان متفتحا و لم يرغمنا يوما على الزواج لقد تزوجنا باختيارنا. لكن مع ذلك أنا أحسن من جدتي, التحقت بالجامعة و تزوجت وعمري تسع عشر سنة. جدتي كان عمرها ثلاث عشر سنة وسافرت إلى مانشستر, وأمي تزوجت وعمرها أربعة عشر سنة الزواج الأول, وستة عشر سنة الزواج الثاني, وسافرت إلى اتزر. كانا لا يعرفان المسافة القائمة بين البلدان و المدن, فقط يعرفان أنهما بعيدان عن أهلهما. أنا وأنت أفضل منهما بكثير.

كوارث مفجعة عندما تشتكي فدوى لأختها. تصرخ في وجها منى قائلة:

شجرة الزيتون الحرة هي التي تضرب بالسوط من أجل أولادها وتصبر. عليك بالصبر, إذا خرج زوجك فهو رجل, لاشيء فيه يتغير بعد عودته.

فدوى تقلقها مثل هذه التوصيات البالية, تغير الحديث و تقول لها:

الممارسات اللغوية منها يؤخذ المعجم لا العكس. عندما كان يحدث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحدث ولسان العرب بين يديه, لأن المعاجم اللغوية لا تمثل كل الممارسات الكلامية, المعاجم تقوم على الاختيارية. المعاجم تشبه الكوارث التي نتحدث عنها.

تقول لها منى ساخرة :

يجب أن نهتم فقط بطبخ الحمام باللوز, لا غرض لنا بالمعاجم اللغوية. أوصتني جدتي أن أبرع في طبخه. أنا يأكل الضيوف بنان أصابعهم على طبخ القدر حمام باللوز عندما أقدمه لهم.

لا تجيبها تصمت, تصمت. تعرف أن الكلام يجعلها حمقاء و مجنونة. تقول لها:

رددي معي باسم الله الرحمن الرحيم. يا رب علمني أن أحب الناس كما أحب نفسي, وعلمني أن أحاسب نفسي كما أحاسب الناس, وعلمني أن التسامح هو أكبر مراتب القوة وأن الانتقام هو أول مظاهر الضعف. يا رب لا تجعلني أصاب بالغرور إذا نجحت, ولا باليأس إدا أخفقت, بل ذكرني دائما أن الإخفاق هو التجربة التي تسبق النجاح. اللهم إن أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي, وإن أعطيتني نجاحا فلا تأخذ تواضعي وإن أعطيتني تواضعا فلا تأخذ اعتزازي بكرامتي. اللهم إذا أسأت إلى الناس فأعطني شجاعة الاعتذار, وإذا أساء الناس إلي فأعطني شجاعة العفو, وإذا نسيتك فلا تنساني.

تلتفت إلى أختها فدوى وقد بدت لها ساهية عنها :

فدوى أختي, سأحكي حكاية من أجمل الحكايات التي حكتها لي جدتي إنها حكاية صمت بنت السلطان’.

جدتي تهوي حكايات ألف ليلة وليلة ما هي بقارئة. لم تقرأ مورفولوجيا بروب, ولا موباصان كريماس, ولا المعاجم اللغوية. لكن كانت تحكي حكايات ألف ليلة وليلة. يلذ لها ألحكي, وتختفي أثناء حكيها كل أسلحة الدمار الشامل. و يوظف حاملو الشهادات, و يسقط الدم, ويتزوج الرجل الفقير بنت السلطان.

تقول جدتي :

كان حتى كان الله في كل مكان, حتى كان النبي صلى عليه والسلام. خرج شاب فقير يجوب أرجاء المدينة. كان همه منصبا على ما شاع من خبر صمت بنت السلطان وامتناعها عن الكلام, وعجز الفقهاء والحكام والسحرة والشعراء على شفائها. كانت تلوذ بصمت رهيب , الرعية الوفية والشعب العزيز يحملان لها حبا جما. شعر الشاب الفقير بتعب شديد واستلقى على جنب شجرة. الجوع يعصف بأحشائه وبنت السلطان تستولي على مخيلته بصمتها الرهيب. أصابته سنة خفيفة وسمع حوار حمامتين فوق الشجرة تحدث إحداهما الأخرى تقول: ”لو علم أحد بأمر سرنا لبادر بذبحنا, وجمع دمنا في قنينة من جعبة القصب, وهرول مسرعا إلى بنت السلطان.” التقط الشاب الفقير الخبر على عجل وانطلق مسرعا إلى قصر السلطان. لم يشعر بالجوع الذي كاد يمزق أحشائه ولا بالتعب الذي يشل رجليه. لم تسقط من الجعبة أي قطرة دم لأنه كان يحفظها بجوار شغاف قلبه حيث ظل الدم يحتفظ بمقدار حرارته الأولى أثناء الذبح. كانت سرعته تغلب سرعة البرق و لم تتعثر قدماه. الشاب الفقير لم يكن على علم بسرعة السكود الذي ضرب تل أبيب من بغداد, ولم يكن خبيرا من علماء تكنولوجيا الحرب. فتكلمت بنت السلطان: ”عجبا الدم ينزل من الشمعدان.” دقت الطبول, زغردت النساء وهلل فرحا سيدنا السلطان. تزوج الشاب الفقير, ابن الرعية الوفية والشعب العزيز بنت السلطان. لم يحمل لها اللؤلؤ والمرجان, حمل الدم.

فدوى تقول لأختها منى:

الشيء الذي له قيمة في هذه الخرافة هو الدم والمساعد هو الشجرة.

لا المساعد هو الحماتان. الحمام له انطولوجيا في الذاكرة البشرية. الحمام يذكرني بطوق الحمامة لابن حزم, الذي يسند فيه ثقافة المرأة إلى الكيد.

هل كان ابن حزم لا يحب النساء مثل شهريار. هل أقسم أن يقتل ألف امرأة وامرأة ؟

لا, الرجال يحبون النساء. الحب استواء نفسي للرجل , شهريار كان مريضا نفسيا.

منى تسمع والدها يغني وسط أدغال الغابة, لكن لا يطلب الناي مثل جبران خليل جبران. والدها أمازيغي أعماقه عربية, يغني بصوت شجي قرب شجر الأرز:

افرو حمام يوفرو

يوري قيم غوري

لافوت دوين

منى لا تفقه معنى هذه الكلمات لكنها تعرف أن والدها لا يقوى على فراق صاحبته. يعرف الحب يعرف السياسة . لا لا فضول تقضي أجمل لحظاتها في سطح سكنها بدرب اللبن, تطعم الحمام بقايا حب الزبيب. تلتفت منى إلى أختها فدوى تقول لها:

أنت أختي لا حب ولا سياسة . أنت لا تقوين على ذبح الحمام.

الدم, الدم بالصخرات ينزل , تختفي بنت السلطان ولا تتكلم. يسقط الدم والد منى يتوقف عن الغناء. الحمام قدر باللوز يحترق . الحمام عندما تتحدث الشقيقتان على شاطئ الصخرات يكون له معنى آخر. تقول لها منى:

عندما أشغل لفظ حمام, يكون للفظ معنى آخر غير ما ترمز له جدتي وما يقصد ه ابن حزم. إن اللفظ المستعمل يحتفظ بخصوصية المتكلم والحدث المزامن له.

زهور تملك ناصية القول, تعرف الحمام و تعرف حكاية الحمامتين. تحكي منى خرافة صمت بنت السلطان و تستسلم فدوى لسنة خفيفة. تحكي منى خرافة أخرى عن النجار والدمية. الرجل الورع المتصوف الذي صنع دمية من الخشب وكان يكثر من الصلوات ويتلو القرآن في منتصف الليل. حصل يوما أن طلب من الله سبحانه وتعالى أن يزرع الروح في الدمية لتتكلم. تكلمت الدمية, فتنه جمالها و تزوجها فغضب الله عليه ومسخه فأصبح قردا. استولى على منى النوم العميق واستسلمت لنوم غريب. تكلمت الدمية ولم تتكلم بنت السلطان. تستيقظ من النوم على صخب أمواج عنيفة. تقول لأختها وقد تبين لها عدم الاهتمام لخرافاتها:

أنت مشغولة بهمومك الزوجية. هيا غوصي في البحر , كوني مثل البطلة نورا, اطرقي الباب وراءك وانصرفي. نورا شجاعة, بعد أن أنجبت ثلاث أطفال تصفق الباب وتنصرف. سأعطيك المسرحية لقراءتها, إنها لكاتب نرويجي يناصر المرأة. ‘ بيت دمية ‘ نشرت عام 1879. و سأعطيك أول رواية نسائية نرويجية نشرت قبل هذا التاريخ بكثير, ‘ بنات الوالي ‘ نشرت عام 1854. هذه الرواية متقدمة على زمنها لهذا عمدت المؤلفة إلى توقيعها باسم رجالي مستعار, الكاتبة هي ‘ كاملية كوليت ‘.

فدوى :

لا أدري سر اهتمامك بنورا, كلما تحدثت إلا وورد في حديثك خبرا عن نورا ؟ تعلمين أن مسرحية ” لعبة دمية ” سيعرض هده السنة فيلما وأن الممثلة بوسي ستقوم بدور نورا.

ترفع قدميها من فوق الرمل و تصوب النظر إلى البحر. يعجبها أن تمد النظر إلى مشاهدة غضب البحر في ارتفاع أمواجه. تحرك قدميها, تزيل الرمل ا لعالق بين مرتق أصابعها, تحرص على أن لا تصاب بالشامبينيو من جراء تعفن الرمل داخل الرتق, تغرق في هلوستها. تفرح عندما تعرف أنها متميزة في طهي الحمام قدر باللوز. تذكر طبخ أختها بالأمس وكيف أخرجت من الفرن السمك ملفوفا في رقائق الألمنيوم الفضية اللامعة. تعرف أنها هي الأخرى تريد أن تنفرد بطبخ السمك. جدتها كانت ماهرة في طبخ الحمام قدر باللوز. ترقبها وهي تصعد إلى السطح تطعم الحمام حب الزبيب. الحمام يلتف حول الحب و تغني بصوت شجي:

يا حبيبي وحبيب الناس

يا فضة ما فيك نحاس

يا الحمام أللي في الشبيك

منى تغني نفس الأغنية التي كانت تغنيها جدتها وبنفس النغمة, وبصوت خافت لا يسمع. تلتفت إلى أختها وهي تضع زيت أركان وعصير الجزر على جسدها ليتورد, وتلهو بحبات الرمل بين قدميها. تقول لها:

هل شاهدت البارحة على القناة الفضائية فيلم ”بنات حواء” إنه يناقش قضية دخول المرأة البرلمان.

فدوى متأففة و قلقة تقول:

أنا لا أهتم بالمرأة داخل البرلمان, ولا داخل الحكومة, ولا داخل قصر السلطان. أنا أريدها داخل الحمام, لكن بشرط أن لا تقتحم الشرطة الحمام وإذا حصل واقتحمته الشرطة يجب أن تكون فيه صاحبة الشرطي أو ابنته. أنا أرغب في أن تكتب المرأة داخل الحمام قصة لتصبح فيلما . أنا لا أهتم بالأفلام التي تخص المرأة أنا أحمل هموم الإنسان في كل مكان , يجب أن تشاهدي آخر فيلم ”الجنة الآن”, إنه للمخرج الفلسطيني هاني أبو اسعد, صوره في نابلس , الفيلم مرشح لجائزة أوسكار . إسرائيل قوية عسكريا و نحن أقوياء بالموت. انتبهي أنا الآن أقرأ رواية باللغة الإنجليزية ‘‘أهواء حواء الجديدة’‘. أنت شبيهة ببطلة هذه الرواية التي توجهت إلى كاليفورنيا, بعد أن عانت الويلات من الحرب الأهلية اللبنانية. التقت مع ‘ ليلي ‘ في مخيم اللاجئين و أخبرتها أن أمها قد توارت في كهف . ‘ حواء ‘ مع أمها المجنونة متظاهرة بأنها ستعود , حواء اتجهت إلى البيت وهي تعبر النهر تاركة وراءها أمها تغني.

تغلق الصفحة 174 , وترقم بعض أوراق صاحبها التي حملتها إلى شاطئ الصخرات. يقلقها أنه لا يرقمها. تقرأ لاختها فدوى بعضا منها:

‘ لا صلة قياسية توجد بين الحمام والحمام رغم الاتفاق في الحروف الأساسية. ظاهر الأمر أن الحمام بكسر الحاء يعني الموت والحمام بفتح الحاء يعني نوعا من الطيور. الصورتان منقلبتان عن أصلين لصوتين متميزين عن الحمام وأسرته الاشتقاقية. ثم إن الحمام والحمام بينهما تشابه. حاصل الأمر أن الحمام والحمام تنتمي لأسرة صوتية تاريخية متمايزة تطورت إلى هذه الصورة المتقاربة… ‘

منى تتذكر حمام الروامزين, تقول :

داخل الحمام توجد صاحبة الشرطي , سيدة صعبة المراس. عندما تلج الحمام يقطع النساء الزي [17] , يملأن القباب على مهل ولا يقع شجار ولا هجاء. ينسكب الماء على أطراف البرمة [18] صافيا والطيابة [19] تبادل النسوة الكلام المفرح , في هدوء تسقي النساء الماء و يسمع لهن كلام منعش شبيه بالحب والسياسة. الغسول [20] المعطر , تنبعث منه رائحة الورد والبابونج والقرنفل والخزامة. قلما تنعم النساء بمثل هذا الحمام , إلا إذا كانت بداخله صاحبة الشرطي. عري مصحوب بوشوشات الحب والسياسة. تدخل عروس يحفها الأهل بالشمع المضيء والزغاريد المفرحة.

تقول لها فدوى:

وعندما لا تكون صاحبة الشرطي بداخل الحمام كيف يكون ؟

النار تنبعث من كل الأركان. الحمام يكثر فيه الصراخ والعويل. ينقطع الماء من البرمة, تحلق عليها النسوة ليلحقن بأول دفعة ماء, قطرات الماء الحارة تصيب إحداهن فيرتفع العويل , صراخا جهنميا. تنزل ضربات القباب [21] على بعضهن. العويل يصم الآذان و سباب الطيابة شبيه بعري النساء. أياد طويلة تلحق البرمة, تتشابك الأيدي, يختل توازنها , اليد الطويلة تصل إلى البرمة تغرف الماء.

تعرفين لماذا لعن عبد الرحمن المجذوب النساء. لأنه دخل الحمام مع أمه وصبت عليه إحدى النساء الماء حارا فتعقد من العري المصحوب بالنار وزهد في النساء. العري ليس من الضروري أن يكون نافعا, قد يحصل العكس ويكون ضارا.

منى لا تلتفت إلى تحليل أختها فدوى. تغرق في هلوستها, تلتفت إلى سكون والدتها داخل الحمام. يخجلها تقاعسها لأنها لا تزدحم وسط النساء على البرمة ولا تلحق بأول دفعة ماء حار. يخجلها سكونها و يبدو لها ضعفها أمام قوة النساء. تعزو أمها ذلك إلى آدابها وتشبعها بالأخلاق الفاضلة. منى لا تصدق كلامها , تعلم أنه لا بيان ولا تبيين لها, لا تقدر على تعيير بعضهن قلما تسب إحداهن. مرة قالت لامرأة تسكن بحيها:

أيتها البدوية الشقية, فسد الحي بمجيئك إلى المدينة.

انقضت عليها البدوية و صبت سطلين من الماء البارد على جلبابها الأنيق. كانت قد سقتهما من السقاية. كان يوما عصيا على الذكر, لحقت المرأة بأم منى وهي تهرول إلى الممر الأسطواني, مفزعة مرتجفة. البدوية تشتمها بصوت عال تقول لها:

– أيتها الخوافة اليهودية, هيا أقبلي كوني شجاعة اقبلي علي لأجعلك فرجة لأهل الحي. اقتربي…

كانت المرأة في كامل الشجاعة والقوة. سليطة اللسان, ينزل الكلام من لسانها سما يقتل, تفجر اللغة في يسر وبلاغة أنيقة, وجمالية مفرطة. تجرح, تجرح ولا يسيل الدم. يتجمع حولها النسوة منبهرات لدقة قولها, وسلامة منطقها, وبراعة وصفها. تنهي المشهد بنزع سروالها لتعلن عن أعلى درجات التمرد و التنصل من الأخلاق. منى مندهشة لأنها تعرف أن الرجل وحده هو الذي ينزع سرواله للتبول قرب السقاية. صعقت هذه اللحظة عندما شاهدت المرأة هي الأخرى تنزع سروالها. تفرج النساء على قوة شجاعتها, يستحي النساء ويهرولن مسرعات إلى بيوتهن. تدخل أم منى إلى الدار مرتبكة خائفة تلف أولادها حولها و تطمئنهم قائلة :

المرأة البدوية سافلة, لا خلق لها. صوتها عال يزلزل الحي. الصوت عورة لا حق لها أن ترفعه. والدي أوصاني بذلك تأدبا وحشمة ووقارا.

منى تحب أمها و لكنها لا تعجبها, لأنها لا تستطيع أن تفجر اللغة , لغتها الصمت, الصمت لا يسعفها لا البيان والتبيين و مكاشفة اللغة في ألقها وتوهجها, تصمت. منى تغار من فصاحة البدوية, تريد أما مثلها تفجر اللغة لتنزل سما يقتل. تتذكر عندما كانت طفلة صغيرة, تخرج مساء إلى حي سيدي عمرو المجاور لحي سكنها بالدريبة , يعجبها مشاهدة شجار النسوة . تستفز إحداهن الأخرى , تعيرها وتسب أهلها ,تنقض عليها تنزع شعرها و تنتف وجهها و تطرحها أرضا و تسيل دمها. يعلو الصياح , و تقف السيدة المنتصرة كالمجنونة متبرئة منها قائلة:

ابتعدي مني, إياك أن تقربي أهلي بسوء…

ينتهي المساء, يحضر الرجال و تنتهي الخصومة بحفل شاي يقام بأحد دور المتنازعتين فيعلن السلام. يتبادلن القبلات, يلعن الشيطان و يقول الرجال ”النساء قليلات عقل ودين’‘.اعتادت منى مشاهدة مثل هذا الشجار بحي سيدي عمرو و قرب السقاية. لا السبالة كما كان يحلوا لأمها أن تقول. يسقي النساء الماء من السقاية, تخرق إحداهن صفوف النسوة فيعلوا الصياح, تخرج صاحبة الشرطي التي كانت تسكن ما بين السقاية والبقال, يسود الهدوء والصمت… الصمت… يسقي النساء الماء في حب وسياسة. يلذ لمنى مشاهدة السطول مملوءة بالماء, المرأة تحمل سطلين في توازن مدهش و لا تسقط منهما أي قطرة ماء. تشتد غيرتها , تحلم بأم تملأ سطلين من السقاية وتندس في زحمة النساء.

عندما تكون صاحبة الشرطي في الحمام, يهدأ روع النساء. الطيابات تغدين ويرحن كحمام الحب, يسلمن على النسوة بأدب جم ووقار كثير, يتحركن كالحرير والابتسامة لا تنقطع من شفاههن ,النساء يغرقن ماء. اعتادت أم منى عند دخولها إلى الحمام أن تمد الكلاسة [22] بقطعة من السكر والشاي ملفوفين في ورق أزرق, مقابل أن تلحق بسرعة إلى الداخل لتسحب منها آخر ملاءة تضعها على عورتها. أمها بحق كانت فاتنة و أنيقة. تفتن كل النسوة قي الحمام و تلفتهم إليها. السوار الذهبي الذي سك بمدينة الصويرة بمعصم يدها, وسلسلة الذهب المفتول التي صنعت بباريس على جيدها. الذهب يزداد لمعانا في الحمام. تمدها الطيابة بالقباب ممتلئة ماء من البرمة في المرحة الأولى, و تحك ظهرها في المرحلة الثانية ثم تسقيها ماءا وتنصرف إلى أخرى بجوارها. عندما تبدأ فقاقيع الصابون المعطر بيضاء تتشكل على جسدها, و تصب سطلا باردا , ليتصلب جسدها و تعصر جدائل شعرها , تبادر الطيابة بحمل فوطة وردية اللون, محبوكة بالحرير, تلفها عليها و تضع أخرى على رأسها. تنصرف لتستريح في الجلسة [23] و تنشف جسدها كثيرا. فضاء الجلسة تهواه ا فهو النهاية المستهدفة من الحمام . تلتفت بجوارها و تخاطب سيدة شابة وقد بدا الانتعاش على وجنتيها المحمرتين, تقول لها:

الحمام اليوم رائق وفي منتهى الهدوء والراحة. البرمة الحمد لله ينسكب الماء على أطرافها دافئا. بصحتك سيدتي.

ترد عليها بصوت خافت وقد بدا الحر عليها هالكا:

– هذا بفضل سيدتنا صاحبة الشرطي , الفرنتشي [24] بمجرد ما يعلم بوجودها في الحمام خيط الماء لا ينقطع. الطيابات خطواتهن كالحرير, لا صخب ولا تبرم.

أم منى تلبس كبوطها [25] التونسي الأخضر والمخطط بخطوط سوداء, وتضع فوقه قميص جوهرة المخطط بالأبيض. تكشف عن ساقيها الورديتين اللامعتين المكتنزتين و تشد السروال كولف [26]إلى أعلى. تحرص على أن يتجاوز الصرة. تلفت إليها باقي النسوة و تقول سيدة لأخرى:

– الجمال الحقيقي يظهر في الحمام تبارك الله عليها.

منى تقول لأختها فدوى وهي تنشف جسدها من ماء البحر :

في عهد السلطان مولى إسماعيل وفي داخل الحمام, انتبهي أختي إن الحمام الذي سأحدثك عنه هو حمام مدينة سلا ليس حمام الروامزين بمكناس, كان في هذا الحمام نساء يتسلين بالحوار ويضحكن مع نساء أخريات. و حتى تكون التسلية على أحسن ما يرام يصحبن معهن ”السبور دولابلاش” متنكرا في زيي فتاة. فإذا اختلين في الحمام, بقي وسط النساء اللاتي يغتسلن أمامه عاريات تماما, وهو يعزف على قيثارة في انتظار أن تلحق بهم سيدته.

و إذا كان قد حدث شيء في مغازلته لهن فإنه لا يمكن البوح بالكلام الذي قيل داخل الحمام . الحمام . التاريخ لا يكتب كله. لابد من الإشارة إلى أن الأسرى الأوربيين يمكنهم الدخول إلى الحمام مع النساء والانسلال إلى مخادع سيداتهم, فقد سمح لهم بذلك حسب الأعراف المغربية . فهو غير محرم في شريعة البلاد ولا يغضب لذلك علماء الدين ولا السلطان, ولا أعيان البلد. النساء لا يتسترن ولا يحتشمن من الأسرى الأوربيين, لاعتقادهن أنه عميت بصائرهم كما عميت أبصارهم و لهذا تظل النساء عاريات في الحمام دون خجل.

فدوى لا تعير حكي منى اهتماما و تنصرف مرة أخرى لتغوص في أمواج البحر الغاضبة. تواجه الأمواج دون خوف و تغوص في عمقه .

منى تخاف عندما تلقفها موجة تتذكر هجوم الشرطة الذين لحقوا بالطالبات في دوشات [27]الحي الجامعي بظهر المهراز. الشرطة دخلت على الطالبات وهن يغتسلن. لم تصدر أي فتوى من طرف العلماء بحق الشرطة الذين اقتحموا الدوشات والطالبات عاريات, الجسد عورة. تلحقهن داخل الشاحنة الزميلة السورية و تعلن أنها شرقية لا علاقة لها بالإضراب. يقول لها الشرطي:

زيدي لمك في الفاركونيط [28]

يدفعها بقوة بقدميه وهو ينتعل حذاء من الحديد. زميلة أخرى يشدها من صدرها يدعك نهديها بغريزة وحشية ثم يوقعها في الفاركونيط. يطوح بأخريات, يتعثرن بين قدميه و لا تستقيم مشيتهن. يقد قميص إحداهن من دبر فتصرخ و يدفعها في عجلة إلى الفاركونيت التي تخرق بهم الطريق في سرعة البرق. تخاف منى, تتذكر صاحبة الشرطي, لو التحقت ابنتها بالجامعة وكانت زميلة لهن بكلية الآداب وسكنت في الحي الجامعي بظهر المهراز, لتغير التاريخ.

أم منى تخلط الحناء, تضعها على شعر صبيتها الطويل و تدعك الخليط بين أصابها حتى يتسرب إلى جذور الشعر مغذيا. العملية كانت صعبة و تعاني منها منى الصبية كثيرا. الأم في بداية شبابها تضغط على منكبيها تعصر الصبية ما بين ركبتيها, تشدها بقوة حتى لا تنفلت منها لا تعبأ بصراخها. تمعن في تصفيف شعرها, تسوي الخليط عليه, تفرقه خصلتين وتجعله ضفيرتين, كل ضفيرة تربطها بخيط وتشد الضفيرة إلى الأسفل. العملية صعبة وشاقة على صبية صغيرة تنتظرها نهاية كل أسبوع لتقذف في حمام الروامزين الشديد الحرارة. تصب الأم الماء الحار على رأسها وهي تقول لها:

صففي شعرك جيدا لأشققه بالغسول. أسرعي إلى البرمة إن الماء يفيض منها. اغطسي القباب في البرمة لتملأ. إن صاحبة الشرطي غير موجودة اليوم في الحمام.

حلقة من النساء يصرخن أمام البرمة. الحمام يرتبط في ذاكرة منى بالنساء عاريات مكتنزات جسدا. الحمام مرتبط بأحاديث جدها عن يوم القيامة والنار والحريق وجهنم. الطيابة تدفع الماء حسب الوجوه المكرمة والمنعمة. من جاءت بقالب السكر ملفوفا بورق أزرق تسقيها أكثر من التي جاءت بقطع السكر. الطيابات يقصصن للنساء قصصا عجيبة.

منى مستلقية على ظهرها بشاطئ الصخرات غارقة في هلوستها تتذكر وهي تحدث أختها فدوى. زهور في سكنها بحي مولي يوسف تنتظر مع جارتها المراكشية السهرة التي سيغني فيها محمد “ودارت الأيام”. محمد بالصخرات محرج يرفض أن يغني لسيدة الطرب إكبارا لها. السيدة زهور تنتظر. كارثة وقعت لم يغني محمد ” ودارت الأيام”.


[1] بذلة أوربية

[2] مقصوص على الطريقة الفرنسية

[3] – حزام من الذهب الخالص

[4] – طانكي : قطع من الذهب المخرم متلاحمة تملأ صدر المرأة ,

[5] – خيط الريح : قطعة من الذهب على شكل خيط طويل مرصع بالجواهر يوضع فوق الجبهة

[7] – خنطقرة : نوع من الحيل

[8] – السبسي : نوع من السجائر التقايدية

[9] – التنفيحة : غبرة تستنشق للانتعاش

[10] – العولة : مخزن الأكل في البيت

[11] – خوابيه : فخار يستوعب العسل والزيت والسمن والخليع

[12] – حمرية : حي سكنه الفرنسيون أيام الاستعمار

[13] – البزيوي : نوع من الجلابيب الباهظة الثمن تنسب إلى قرية لبزو

[14]

[15]

[17]

[18] – البرمة :

[19] – الطيابة :

[20] – الغاسول :

[21] – القباب :

[22] – الكلاسة : التي تحرس الملابس

[23] – الكلسة :

[24] – الفرنتشي :

[25] – الكبوط :

[26] – كولف :

[27] – الدوشات :

[28] – الفاركونيت :

الفصل الثالث

هو يلعب وسط الستائر وهي تفرك اللوز

تجلس القرفصاء ثابتة مثل المسمار, لا تتحرك من مكانها, تفرك اللوز. لا حق لها أن تلعب وسط الستائر, قرب عتبة الغرفة الكبيرة, وإذا سهت ثانية وحفزتها أحلام اليقظة على تغيير مكانها بجوار جدتها, إلى عتبة الغرفة الكبيرة, لتلتف مثل أخيها وسط الستائر, تقرصها معنفة قائلة:

أين أنت ساهية أيتها الغزالة الفاتنة. افركي اللوز بسرعة, يجب أن نطوي ألف بريوة, ومن بعد ألف كعب الغزال مفند في السكر, وألف بلا سكر, و عشرة محنشات. هذا الشغل هو الذي تحمله معها العروس إلى بيت صاحبها, لتعد له كل ما يشتهيه. يجب أن تكون يدك مثل الذهب.

يدخل الحاج اللبدة الحمراء تحت إبطه, في باطنها ربطة من النعناع. يرمق باب المطبخ, فتبادر داد الياسمين لتمسك ربطة النعناع من يده. تخاطبه صاحبته زهور متعبة:

سيد الحاج, ادخل مد يدك و ساعدنا بشيء من البركة. إننا غارقات في إعداد الحلويات منذ الفجر.

يلتفت إليها متذمرا قلقا:

إياك أن تقولي اللوز. أقسم بالله العلي العظيم, إذا طلبت اللوز مرة أخرى لتكونين طالقا. علي بالحرام اللوز لن يدخل بيتي.

تنظر إليه للا زهور نظرة ود ورحمة وإغراء قائلة:

سيدي عبد الكريم, الله يزيد في رزقك, ويعطيك حجة أخرى ويطيل لنا عمرك. مازلت في حاجة إلى ثلاثين كيلو من اللوز لنطوي عشرة محنشات للصبوحي.

يرد في عجلة هادئا:

يكون خير إن شاء الله .

تتابع كلامها, وقد لمست في صوت صاحبها قبولا وحبا وسلاما.

إذا سمحت, اطلب لنا ذاك الشقي المحجوب خادمك في الدكان, لينزل معك غدا ويطحن لنا قوالب السكر. دادا الياسمين يدها مفكوكة.

يرد بصوت منخفض, متبرم, متجها إلى البرطال .

أعود بالله من الشيطان الرجيم. حتى الخادم الذي يساعدني في طي قطع الثوب تطلبه لمساعدتها في زفاف ابنها أحمد, والله والله إن هذا منكر.

يحضر المحجوب, تطيب القعدة وتطول الجلسة. تقترب للا زهور منه و تحدثه بلطف وحنان مفرط, تقول له :

أي أخبار تحمل أيها الشقي العفريت؟

يحدثها عن البدويات وحضورهن للتبرك بموسم سيد الهادي بن عيسى. يتسللن من ضريح الشيخ الكامل ويدخلن إلى قيسارية البزازين. يقول لها :

سيدتي تعرفين الحاج صاحب الهري الكبير بالبزازين. هذه الأيام وقعت عينه على إحدى البدويات ففتن بجمالها واقسم أن يتزوج بها الشهر القادم.

حركت الجدة رأسها حركات دائرية بسرعة البرق, ملتفتة إلى حفيدتها منى, لتقول لها بصوت بطيء:

نعم, اسمعي أيتها الغزالة هذه الأخبار, اسمعيها جيدا وضعيها حلقا في أذنيك. هذا هو درس التاريخ, لا توجد لا داهية ولا دامية.

منى تتمسح بجنبات جدتها. تقول لها والدموع تنهمر من عينيها:

جدتي أريد أن ألعب وسط الستائر, بجوار أخي أمين.

لا, لا تلعبي, أنت بنت. يجب أن تمعني النظر إلى طريقة طي البريوات وأن تمسكي جوانبها بماء البيض, حتى لا تنفتح عند القلي. لا تشغلي عقلك بالتاريخ إنه صناعة القوي إزاء الضعيف. مثل ألف ليلة وليلة, جدتي تحفظ الكثير منها. أنا أحكي بعضها في الظلام, لي رغبة أن أحكيها في النور. التاريخ قوتان قوة الظلام وقوة النور.

تلتفت الجدة في اهتمام بالغ إلى المحجوب. تلح عليه أن يحكي لها فضائح البزازين. تمده بحفنتين من اللوز. يقول لها :

سيدتي للا زهور, سيدي ينتظر آذان المغرب ليهرول مسرعا إلى الزاوية, والسبحة لا تفارق يده, واللبدة تحت إبطه.

جلسات المحجوب مع للا زهور اشتدت الأيام الأخيرة, و بدأ يفضي لها بفضائح البزازين. الحاج سمح للمحجوب بولوج فضاء الحريم المغلق. يدخل المطبخ و تمده سيدته بقطع اللحم ملفوفة في الخبز. منى تحفظ التاريخ وتفرك اللوز.

المحجوب أصبح شبيها بمويط, الأسير الفرنسي الذي خرج من باريس عام 1670 وبيع في سوق النخاسة بالرباط بباب القناط. كان من حظه أن اشتراه رجل من سلا وأخذه إلى منزله فعمل مع الحريم سنتين خادما. هذه الأحداث وقعت في عهد المولى رشيد, وعندما بويع المولى إسماعيل, انتقل في ركاب مولاه من فاس إلى مكناس. وأشرف على أشغال البناء زهاء تسعة أعوام, إلى أن أمر المولى إسماعيل بفك سراحه. فرجع إلى باريس سنة 1681 وكتب رحلته عام 1683 . لكن الغريب في الأمر أن المحجوب ليس بأسير.

يحكي مويط عن رحلته و يقول :

… وضعوني بين يدي رجل اسمه محمد اليبوسي, فأخذني معه إلى منزله حيث وجدت حماته وزوجته اللتين كانتا أندلسيتين. أخذتا ترثيان لتعاستي وأطعمتاني جيدا, ثم أعطتني سيدة البيت كيس قمح أطحنه في طاحونة يدوية كانت في مطبخها. سيدتي هذه كانت شابة جميلة جدا, تتكلم اللغة الإسبانية بطلاقة. كانت تمتعني بخبز السميد الأبيض والزبد الممزوج بالعسل والفواكه. أشفقت علي وأزاحت عني سلسلة تزن خمسة وعشرين رطلا, كان زوجها قد أغلني بها , وكانت تناديني أن أتحمل أسري بصبر.

المحجوب يساعد للا زهور لكنه لا يلج غرف الحريم مثل الأسير مويط . يصل باب الدار. يحمل لسيده القفة يدخلها إلى المطبخ و يساعد دادا الياسمين في بعض أشغال البيت الشاقة.

الجدة منهكة في طي المحنشات . الطفل أمين يدور وسط الستائر و منى حزينة تضرب على فخد جدتها منبهة إلى أن أخاها أمين سينزع الستائر بكثرة الدوران. لا تعير التفاتها أي أهمية و تجبرها على فرك اللوز, ونزع قشرته, و تنبهها إلى كيفية طي المحنشات . توصيها مرات عديدة بأن صنع الحلويات من الأشغال المهمة التي تجدها المرأة في ذراعها يوم زواجها. منى ترغب في نزع الستائر و تلح على الالتحاق بأخيها. تقرصها جدتها قرصة زرقاء. الدوران وسط الستائر يتلف عقلها و يغريها باللعب. لعبة الستائر تهواها. أمين يلتف وسط الستائر و يدور. الستائر أربعة, الأولى تسمى الخريب [1], والثانية وبر الحديقة [2] , والثالثة جوهرة الحرة [3] , والرابعة الشبكة [4].

منى تصرخ :

للا, أللا, انتبهي خامية [5]جوهرة ستقلع من مكانها من شدة الدوران. ستسقط… سيسقط …

الجدة توجه النظر إلى خامية جوهرة المتوهجة, ذات الخطوط الصفراء من الحرير الناصع و الباهظة الثمن. تزداد الخامية لمعانا عند الظهر, حيث تنسل أشعة الشمس من ثقب الشماشية [6] متجهة نحوها فتزيدها وهجا و نورا. ترغب منى في الدوران وسطها. الجدة تشعر أن الزمن يلاحقها أكثر من أي وقت مضى, تعرف أنها تقترب من الخمسين سنة. تخاف أن تصاب الخامية بخدوش كما خدش جسدها وبدأ يترهل. تشتعل الحرارة في باطن رأسها, كأنه قدر الحمام باللوز يغلي. ينزل العرق من هامتها و تعلو وجنتاها حمرة. تعاود النظر إلى الستائر الأربعة, يبدو لها أنها بدأت تتمزق وخفت لمعانها, يعز عليها ذلك. تذكرها ببداية شبابها, فقد حملتها معها في شوارها . تعتني بنظافتها , تنزعها من باب الغرفة الكبيرة بين الفينة والأخرى, و تغسلها برفق ثم تعيدها إلى مكانها.

الجدة فطنة, تردد المثل المغربي :

امتولة غلبت خواجية.

تعني بامتولة إعادتها جديدة إلى أول يوم من صبوحها, وتعني بخواجية, الغنية, وهي المرأة الفرنسية التي كانت تبدو عليها مظاهر الثراء والنعمة. حين يدور حفيدها وسط الستائر تنشرح, تغدو كأنها حمامة تدور حول كوكب الأرض, وان هذا الكوكب نزع عنه السحر ولم تعد به حدود. تذكر رحلتها من فاس إلى مانشستر. تندب حظها, ليتها عاشت عمرها كله بمانشستر.

أمين يمارس اللعبة في خفاء حتى لا تلحق به أخته منى. ينتعش, الله, الله … الستائر الأربعة تسعفه على الدوران, لا يتعب و يلتف وسطها بسرعة. يغمض عينيه, يحب ظلمة الستائر. منى تقول لجدتها بصوت خافت يكاد لا يسمع :

للا . أللا لقد طويت ألف بريوا منذ الفجر إلى الظهيرة . تقولين عشر محنشات ؟ هذه أعمال شاقة , أنا ما زلت صغيرة , أرغب في اللعب وأريد أن ألحق بأخي وسط الستائر.

أمين وسط الستائر الأربعة . العتبة الرخامية الملساء ذات البياض الناصع يدور فوقها وهو ملفوف وسط الستائر كقضيب من الفضة . جسده مثبت ينتعش , يشعر بدوار في رأسه يصاب بالدوخة . منى تزداد غيظا وألما وتبرما , تحترق غيرة , تردد في غضب وبصوت مرتفع :

للا , أللا, ستسقط الخامية, خامية جوهرة …

ترد الجدة في هدوء وبصوت منخفض :

ليفعل سيدي أمين ما يحب ويشاء. ليلهو كما يحلو له. إنه قرة عين الأسرة . لا تفسدي عليه لعبته أيتها الحسودة. انشغلي باللوز لتكوني حاذقة في بيت زوجك…

منى تقتلها الغيرة وهي تجلس القرفصاء بجوار جدتها. تصاب بأحلام يقظة. تنسل كالشعرة من العجين و تلحق بجوار أخيها . تلتف معه وسط الستائر الأربعة, يلعبان معا فتشعر بدوار. تلصق قدميها بالعتبة الرخامية. تحذر السقوط. تسر أسارير وجهها و تبتهج. تنزعها جدتها من أحلام يقظتها بقرصة أعنف وأقوى ألما من سابقاتها وهي تقول :

أين أنت ساهية أيتها الغزالة, افركي اللوز,أنت بنت. البنات لا يلعبن مثل الأولاد. يجب عليك الاهتمام بشغل البيت. هذه الحلويات يشتهيها الرجال, مازالت عشر محنشات…

تشعر منى بدوار يشج رأسها. تعصف بجسدها مواجع الغيرة, يلسعها التمايز و ترفضه. لعبة الستائر تغريها. يسرع الزمن. يتوقف الزمن. تدوخ. تستيقظ في زحمة تختلط النساء بالرجال. لا تميز. الأكتاف تتداخل, الأيدي تتشابك والأجساد تتلاحم. منى تحط في أقدس مكان على كوكب الأرض, تسعى بين الصفا والمروة. تردد مبتهلة والدموع تنهمر من عينيها مثل شللات نياكارا:

ربي اغفر وارحم واعف وتكرم, وتجاوز عما تعلم إنك تعلم ما لا نعلم, إنك أنت الله الأعز الأكرم. ربي أريد أن ألعب بجوار أخي أمين وسط ستار واحد شفاف. أحب النور, أكره الظلمة. ربي ارحم, ارحم, أريد أن ألعب بجوار أخي وسط ستار واحد حتى يتم الدوران بسرعة حول العالم. أكره ظلام الستائر الأربعة وحدود العتبة. أحب العالم بلا حدود لأشاهد النور يشرق في بيت الله وأنا في الرستاق , وأنا في موريال …

منى تصرخ بصوت عال متبرم:

جدتي انتبهي. سقطت الستائر, سقطت خامية جوهرة.

يسقط أمين و تسقط ثلاث ستائر ويبقى ستار الشبكة ثابتا. العتبة الرخامية البيضاء يكسوها الدم . تصرخ الجدة :

الدم؟ أنت في حمى الله والنبي. هيا دادا الياسمين أحضري الفلفل الأحمرغبرة ومنديل حياتي أبيض. أسرعي قبل عودة ابنتي, ستندب حظها التعس. ليتها لم تخرج لتدفع قفطان البروكار[7] للخياط اليهودي.

تضع الفلفل الأحمر على جبينه وتشده بمنديل حياتي وهي تردد:

غدا تكبر وتنسى…

لكن منى لا تنسى. تتذكر بين الصفا و المروة, تهرول و تتذكر. تشتد زحمة الرجال و النساء, يندفعون. يسقط خمار أبيض من رأس سيدة, تلتقطه بسرعة البرق و تسوي أطرافه. يهرول الرجال, تهرول النساء و يشتد الحر. تلمح رجلا يضع بطاقة صغيرة في قب [8] جلابية أختها, لا تفقه شيئا. تذكر كل ما آلمها وهي تسعى بين الصفا والمروة. تراودها شكوك في أمر البطاقات تقول في نفسها :

-أعود بالله من الشيطان الرجيم.

تلتفت وهي تطوف حول الكعبة. يد طويلة تمتد لترفع رجلا من بين الزحمة إلى عنان السماء و يدخل في مروحية صغيرة شبيهة بالطائرة الجوية. يسمع بعد قليل صوت عال في الباحة خارج الكعبة:

بأمر من خادم الحرمين يجلد هذا الرجل ألف جلدة. يعاكس النساء.

تحكي منى الحدث لصاحبها يقول:

كثير عشرون جلدة تكفي.

تذكر كل الفواجع التي آلمتها منذ كانت صبية إلى أن أصبحت شابة يطرقها المخاض و تجهض قبل موعد الولادة, الشهر الخامس, يسقط توأمان. تتذكر كل ما آلمها وهي طفلة وهي شابة. تنبذ خرافات جدتها, تدوسها بقدميها. تطوف بأعلى البقع المقدسة من كوكب الأرض. تتذكر لهفتها ورغبتها وحرصها على تقديم أنواع مختلفة من الطعام الشهي لصاحبها وهو برفقة زملائه داخل غرفة الاستقبال. تذكر مرة عندما كانت تعد بعض المقدمات من الأطعمة الخفيفة, الورق من العجين معمر بالجمبري وبالجبن, وباللحم المفروم. تحرص على أن تقدم ما لذ وطاب من الطعام الشهي في أناقة مفرطة. تزين الصحن بورق الخص الناصع الخضرة. تذوق ما يلفت أكله قبل أن تدفع الصحن إلى صاحبها. عندما يشعر بأنها وصلت إلى باب الغرفة يهب مسرعا ويخطف الصحن قبل دخولها, شاكرا. تنصرف بخفة إلى المطبخ, تعد صحونا أخرى أشهى وألذ. تداوم على الدفعات, لا تتوقف حتى تنتهي المسامرة بين صاحبها وزملائه. تشتد الحوارات اللغوية والأدبية والفلسفية. يسمع صوت صاحبها أقوى الأصوات, يسيطر على الجلسات. تدفع الصحون الشهية, يلتهمون كل ما تدفع. يشتد الحوار و يطيب لها سماع المساجلات. تعلم أنهم سينتهون من الكتب إلى النساء. همها أمر النساء. تصيخ السمع. تتجسس. تقف وراء الباب فتسمع صوت صاحبها, خافتا متأدبا وكأنه صوت قاسم أمين. تتسمر في مكانها خوفا وحبا في المكاشفة. الصحن بين يديها, تلتهم ما يشتهى أكله. تلتصق بالباب فتسمع صوت صاحبها يقول لزميله:

اخجل وتمهل . صاحبتك أجمل. كيف تطارد طالبة سمرتها قاتمة.

منى تعرف أن الطالبة سمرتها عسلية مليحة. كانت زميلتها بالكلية و تحظى بإعجاب الأساتذة والطلبة. متميزة بذكائها ونضالها وأناقتها. سلمتها بالأمس بلطف بطاقة الانخراط في اتحاد طلبة المغرب. من ثقب مفتاح باب غرفة الضيوف, تنظر منى إلى أستاذ مادة الفنون الأدبية. يدعك يديه الصغيرتين الجميلتين غبطة وتهيجا, يرد بصوت شاعري مليح وكأنه يكتب قصيدة حب مثل نزار:

ما أجمل أن تدوخك وتقتلك امرأة عسلية. عليك أن تراود كل أصناف النساء و أن تطارد من نبشت شغاف قلبك رائحتها السم. تقتلني, تقتلني. أنا أحب من تقتلني وتدوخني و … يا سيدي بسطيلة كل يوم تسد شهوتي. اسمع لي جيدا, ما ألذ الأكلات حارة في يوم ممطر من ليالي مدينتنا فاس, عندما نصاب بصقيع من البرد القارص وترتجف شفتانا, ما ألذ حرارة السودانية. عندما ألتهم صحن العدس بالخليع به سودانية حارة, أنتعش و تسري بجسدي حرارة الحب. أحلم بأنني شهريار, أكتب ألف قصيدة وقصيدة. أكتبها بقصر غرناطة وأنا أشاهد حقيقة راقصات الفلامنكو يدعكن جسدي, ويداعبن خصلات شعري ,وأجملهن تقلم أظافري. تقترب مني ولادة تقرأ لي قصيدة حب . نحن الرجال نحب الغزل أكثر من النساء, ليتهن يعرفن ذلك. الطالبة عسل يلهب جسدي , يلمع جسدها و يحرقني. أعشقها. لا تستحي وهي ترمق لهفي, و تقول لي:

…. أستاذ.

منى تثبت في مكانها, لا تتحرك. تسمع أصوات الطبيعة, تخاف, يقصف الرعد و تصرخ.الفصل شتاء و البرد قارص, ترفض قراءة الكتب. إنها شابة غرة. الآن فقط في هذه اللحظة تنبذ خرافات جدتها. تلسعها أصوات الرجال , لا تقرا كتبا. يصيبها حزن كبير, تعرف أن كل ما يحكيه الرجال عن النساء هو الطبيعة وما تحكيه جدتها هو التمثال. ليتها تدخل مجامعهم. ليت صاحبها يفضي لها بكل خلجاته. ليتها تعلم ما يعلم. جدتها غبية, لا تعلم, لا تستطيع مكاشفة الطبيعة. كان يجب عليها أن تصرخ عندما كانت تقرصها, القرصة الزرقاء ظلت وشما بفخذها. هي الآن تتألم. ألم هذه المرة مضاعف لأنه يجنح بها إلى الغابة برفقة والدها, تسمع أصوات الطبيعة. تنزع من مكانها و تلحق بأخيها أمين. صوت جدتها يلاحقها:

أسرعي افركي اللوز …

تهرول بين الصفا والمروة. تتعثر, تختلط الأزمنة, يزداد الرعد قصفا و تسقط حقيقة بباب عتبة غرفة الضيوف. يفلت من بين يديها صحن ممتلئ بالبريوات محشوة بالجمبري, تصرخ, تتعثر. يقول صاحبها لزميله:

منى تخاف من الرعد. أجهدت جسدها اليوم بشغل البيت. غدا ستختبر في مادة المغني, لا تستطيع حفظه. الليل بطوله والرضيع أسد يبكي بجانبها, لعل ببطنه ألما. أشعر أنها مرهقة. تعلم أن الطلبة يرغبون في دروس سوسير أكثرمن المغني . تحفظ سوسير ولا تحفظ ابن هشام.

منى حصل لها ثقل برأسها, تخاف الكتابة. تسعفها البسطيلة[9] و تدخل المطبخ. تشاهد نور غرفة مكتب صديقتها العراقية من نافذة المطبخ. تشاهد هي الأخرى نور مطبخها تعلم أنها ما زالت تطهو البسطيلة بأوراق العجين الشفاف. منى تحل الأوراق بالزبد حتى لا يخلط بعضها بعضا. تتعجب صديقتها العراقية عندما تعلم أنها ماهرة في أكلة البسطيلة, تهاتفها :

ألو … يمكنك أن تطهي البسطيلة عارية بلا أوراق, إي والله بلا أوراق ألذ طعما وأنفع للحمية. لا تبددي زمانك في المطبخ.

ترد منى على استعجال:

أنا لا زمن لي. زمني صاحبي ومكاني المطبخ.

جدتها تفرح. تقول لها عندما تزورها:

الله يخلي ليك زمانك. الرجل همة وشأن في الدار ولو كان قفة من العظام

صديقتها العراقية تداوم على الصراخ في وجهها مؤنبة عاتبة ومتبرمة:

أنت تافهة تفاهة البسطيلة. لا تفكرين في الأشياء الأساسية والمهمة والجوهرية التي تهم المرأة. الطلاق, مثلا أصعب طلاق عندما يكون طلاقا ليست فيه ورقة رسمية, إذ يمارس الطلاق على المرأة دون فسخ لعقد الزواج. هذا يمثل أعلى درجات العنف على المرأة, وقد يمارس الطلاق بفسخ العقد وهذا أخف درجة. لكن مع ذلك تظل الأوراق الإدارية مهمة, إنها تخفي الحقيقة, إنها أوراق شبيهة بالأوراق التي خصفها حواء وآدم لتغطية العري وكساء الجسد. تعلمين أن الأرض يبست بها أوراق شجر الجنة التي كست جسد حواء وآدم أول مرة لقد تحولت الأوراق اليابسة فيما بعد إلى عطر, هو هذا الذي نستنشقه في الزهور والياسمين. ألا تستعملي أن الأوراق في البسطيلة سافلة مدنسة لا عطر فيها. أوراق الجنة عالية مقدسة بها عطر لا ينتهي.

منى استعصى عليها فهم ما تقول صديقتها العراقية. الطلاق, الأوراق… تتابع صديقتها حديثها :

يجب إعادة تشكيلة البسطيلة بلا أوراق ... تسمعين بلا أوراق. يجب أن تكون كتابتك عطرا لا ينتهي. يجب أن تستفيدي من قراءتك لأدب ما بعد الحداثة, وما بعد جبران, أن تخلقي بسطيلة جديدة, و أن تقتربي من بطن الرجل. البطن يقع في العماء. المهم أن يلتفت إليك العلماء ليغيرون المدونة, لقد أحيلت على النسيان… أين مقالتك التي حدثني عنها : العماء والعلماء ؟ منى صديقتي إننا اعتدنا الكذب. نكذب على الواقع بالخيال. الخيال هو تمثال من الوهم ضد الطبيعة. الطبيعة هي بسطيلة بلا أوراق, بلا أوراق. إننا نعيش باستمرار تواريخ كاذبة من صنع بعض رجال السلطة , يخلقون من الكذب مشاريع ضخمة. أنتن النساء يوهمونكن بتغيير المدونة. يجب عليكن أن تغيرن المدونة بوعي وتبصر…

في غمرة الحديث عبر الهاتف مع صديقتها العراقية إلتلفتت إلى مرشح برلماني يخطب على شاشة التلفزيون . يشد انتباهها الخطاب, تدرك آخره يقول :

– يجب إعادة مراجعة قانون مدونة الأحوال الشخصية لصالح المرأة … يجب أن تشارك في صنع القرارات السياسية والحكومية. يجب … من حقها أن تصعد إلى… أن تغير المدونة. أن تفضح العتمة… كما فضحت مونيكا عتمة مكتب الرئيس. أغلب المكاتب الحكومية تتحول إلى غرفة غرام. يجب فضح العماء, ليفصح العلماء عن الكلام.

تستمر صديقتها العراقية في حديثها:

ستائر جدتك الأربعة أصبحت خرقا بالية, انزعيها من مكانها, لا تقلدي جدتك. غيري ستائر غرف بيتك. ستار واحد يكفي ويكون من نوع شانطو [10] ,الحرير فيه لامع بخياطة ليستور باطو [11]. أنت مغرمة بالموضة إذا كانت باهظة الثمن. اشتري الستائر من مدينة موريال و خففي وزن أغراضك المحمولة في المطار, ارمي بالكتب إنها ثقيلة. المواقع الإلكترونية مهمة تغنيك عن الكتب.

حق ما تقولين, لقد بعثت لي بالأمس كاتبة كندية من أصول هندية موقعها وكتبت لي رسالة إلكترونية,تقول فيها: أنا الأديبة دونا مارشال, وجدت أخيرا ملاذا وانتماءا من خلال رسالتي الفنية. أنا أعزف على الغيثار, أغني, أكتب الشعر, وأيضا مهنتي محامية أدافع عن حقوق الأطفال. شاركت في مهرجان المرأة العالمي, الذي أقامته المنظمات الكندية النسوية بالتعاون مع النساء المهاجرات في جامعة تورنتو, كما شاركت في احتفالات المنظمة المستقلة للمرأة العراقية والإيرانية, وأقوم بعدة نشاطات أخرى مجانا جودا وكرما. عندما اقرأ الشعر وأنا أعزف على الغيثار, يصفق لي الحضور المتعدد الجنسيات بحرارة وحب ويبكون , و أبكي معهم …

سافرت منى إلى موريال عند ولدها أسد و اشترت الستائر. أسدلت ستارا واحدا على النوافذ. لا عتبة بغرف بيتها. هدأ روعها وبدأت تكاشف الطبيعة. شدت بيد أخيها أمين وهي توجه نظره إلى حسن اختيارها لستار الشانتو من الحرير. ستار واحد يجعلها تطمئن وتشاهد النور يشرق في ببيت الله .


[1] – الخريب : نوع من القماش الفاخر التقليدي , وسمي بالخريب غليا لارتفاع ثمنه ولأن بهد شرائه يخرب مال صاحبته .

[2] – وبر الحديقة : يسمى عند نساء فاس باللهجة الدارجة المغربية * موبرة ديال الجردة * نسبة إلى ورود الحديقة ز وهي من السلع الفرنسية المستوردة . أيام الاستعمار الفرنسي .

[3] – جوهرة : قماش فاخر من الحرير الحقيقي . وهي كذلك من السلع الفرنسية المستوردة .

[4] – الشبكة : من الخيوط الرقيقة المتشابكة تظهر منها كل الستائر , وهي كذلك من السلع المستوردة .

[5] – خامية : هي الستار بالدارجة المغربية .

[6] – الشماشية : ثقب مزركشة بالألوان الزاعية من الجبس تقع في أعلى الجدار محاذية للسقف تنسل منها أشعة الشمس

[7] – البروكار : نوع من القفطان الفاخر .

[8] – قب : خاص بالجلباب يوضع على الرأس .

[9] – البسطيلة : أكلة مغربية فاخرة

[10] – شانتو :

[11] – ليستور :